حديقة الحكمة النبوية في تفسير الأربعين السيلقية،

عبدالله بن حمزة (المنصور بالله) (المتوفى: 614 هـ)

[معاذ بن جبل]

صفحة 130 - الجزء 1

  قوله #: وَلْيَحْرُسْ مَا انْطَوَى عَلَيْهِ جَنَانُهُ.

  الحراسة هي الحياطة والحِمى. والانطواء هو التضمُّن. والجَنان هو القلب، وسُمِّي جَناناً لاستجنانه بالجوانح، وحراستُه له أنْ لا يدع شيئاً من الباطل يدخله، ولا شيئاً من الحق يشذ عنه، والقلبُ سلطانُ الجوارح وأميرها، وبعقلِه يتم صلاحُها، ويتّسِق تدبيرها، ولذلك أدخل كثيرٌ من الضعفة على نفسه الشبهة بأنَّ الإنسان على الحقيقة أمر يحلُّ القلب، وهذا فاسد لغةً وشرعاً، ولا دليل عليه عقلاً، وسقوطه ظاهر لا يفتقر إلى برهان، وفي الحديث: «حِرَاسَةُ العَمَلِ أَشَدُّ مِنَ العَمَلِ» وأعمالُ القلب الاعتقاداتُ والإراداتُ والكراهاتُ والندمُ، وهي أصلُ التعبُّد، وعليها مداره، فهي لذلك أعلاه وأجلُّه، وفي الحديث: «إنَّ فِي ابْنِ آدَمَ بَضْعَةً إذَا صَلُحَتْ صَلُحَ الْجَسَدُ وَإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ؛ ألَا وَهِيَ الْقَلْبُ» فالواجب على العاقل حراسةُ قلبه بِلُبِّه، واستصغار فعله، واستكبار ذنبه، وتسعير نار الخوف التي هي أساس التوبة، وتعجيل الرجعة والأوبة.

  قوله #: وَلْيُحْسِنْ عَمَلَهُ، وَلْيُقَصِّرْ أَمَلَهُ.

  تحسين العمل بالقصد الخالص لله تعالى وحراسَتِه من المقبحات بعد تعرُّف حكمه وتفهُّم معناه، وعمل العبد ما يتعلق بالقلب والجوارح.

  وتقصير الأمل أصلٌ لكل نجاةٍ وسلامةٍ وتوبةٍ واستقامة، وتطويله سببُ الأمور الموبقات، والأسباب المهلكات، فرحم الله امرأً جعل أملَه خلف ظهره، وأجلَه بين عينيه، فبادَرَ هجومَه، وحاذَرَ لزومَه، ومزاودُ الزاد خالية، ومزاد الماء واهية، وراحلة السفر نَقِبَة⁣(⁣١) حافية، والطريق بعيدة حامية، فحينئذ تقع العين باكية، والزفرة عالية، وتنزل حسرة هي ماهية، فترتفع الواعية⁣(⁣٢)، وتنحط الداهية، وفي ذلك ما روينا عن النبي ÷ أنه قال: «مَنْ كَانَ يَأْمُلُ أَنْ يَعِيشَ غَداً فَإِنَّهُ يَأْمُلُ أَنْ يَعِيشَ أَبَداً، وَمَنْ كَانَ يَأْمُلُ أَنْ يَعِيشَ أَبَداً يَقْسُو قَلْبُه».


(١) نَقِبَ البَعيرُ: حَفِي، أو رَقَّتْ أخفافُهُ. (القاموس المحيط: ١٣٩)

(٢) الواعِيةُ: الصَّارِخَةُ، وَقِيلَ الواعِيةُ الصُّراخ عَلَى الْمَيِّتِ، لَا فِعْلَ لَهُ. (لسان العرب: ١٥/ ٣٩٧).