حديقة الحكمة النبوية في تفسير الأربعين السيلقية،

عبدالله بن حمزة (المنصور بالله) (المتوفى: 614 هـ)

الحديث الثالث عشر

صفحة 156 - الجزء 1

  فأي طمأنينة أعظم من هذا، فأحدث الله بعد أمرٍ أمراً، فأصبح الْمُهَنَّى بهم مُعَزَّى، فهل تحسُّ منهم من أحدٍ أو تسمع لهم ركزاً؟⁣(⁣١) فيا له من إزعاج ما آلمه وأهمَّه، وبطش ما أشدَّه وأطمَّه.

  وإنْ نظرتَ في أمر الجاهلية فكم من واعظةٍ جلية، أين العمالقة والأكاسرة، والتبابعة والقياصرة، والفراعنة والمناذرة؟!⁣(⁣٢) وترتهم الواترة، فرُدُّوا في الحافرة، وطُرِحُوا في الساهرة⁣(⁣٣)، فباءوا بصفقة خاسرة، وتجارة بائرة، فأصبحت قبورهم عامرة، وقصورهم داثرة، فهل يأمن الدنيا بعدهم لبيب، أو يسكن إليها أريب⁣(⁣٤).

  قوله #: الَّذِينَ أَقَامُوا عَلَى الشُّبُهَاتِ، وَجَنَحُوا إِلَى الشَّهَوَاتِ.

  الإقامة نقيضُ الانتقال. والشبهات الأمور الملتبسات بالحق المزورات، وسُمِّيتْ شبهاتٍ لأنها تُشبه الحقَّ، فهي أبلغ في باب الافتتان ومعرض الامتحان، وقد روينا عن أمير المؤمنين # أنه قال: (أَمَا إِنَّ الْحَقَّ لَوْ خَلَصَ لَمْ يَخْفَ عَلَى ذِي حِجَا، أَمَا إِنَّ الْبَاطِلَ لَوْ خَلَصَ لَمْ يَخْفَ عَلَى ذِي حِجَا، وَلَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ⁣(⁣٥) وَمِنْ هَذَا ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ فَيَمْتَزِجَانِ، فَيَسْتَوْلِيَ الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ، وَيَنْجُو الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللهِ الْحُسْنَى).

  والجنوحُ هو السقوط والميل. والشهواتُ هي حبائل الشيطان، وهي هاهنا المشتهيات، فسَماها شهواتٍ لَمَّا كانت الشهواتُ تدعو إليها وتوقع فيها.


(١) الرِّكْزُ (بالكسر) الصوت الخفي، تمت، هامش (أ)، (انظر النهاية ٢/ ٢٥٨) (من الآية ٩٨ سورة مريم).

(٢) العَمَالِقَة: الْجَبَابِرَةُ الَّذِينَ كَانُوا بِالشَّامِ مِنْ بَقِية قَوْمِ عادٍ، الواحِد: عِمْلِيق وعِمْلَاق. والأكاسرة: جمع كسرى وهو لَقبٌ لمُلوك الفُرْس. والتَّبابِعَةُ: جمع تُبَّعٍ، وهو لقبٌ لملوك حمير في اليمن. والقياصرة: جمع قيصر، وهو لقبٌ لملوك الروم، والفراعنة: جمع فرعون، وهو لقبٌ لملوك مصر، والمناذرة: هم ملوك الحيرة من أرض العراق، نسبة إلى المنذر بن ماء السماء، ا. هـ.

(٣) الساهِرَةُ: الأرضُ، أو وَجْهُها. (القاموس المحيط: ٤١٢)

(٤) الْأَرِيبُ: الْعَاقِلُ الْفَطِنُ، ا. هـ. قاموس.

(٥) أَصْلُ الضِّغْثِ الْقَبْضَةُ مِن الْحَشِيشِ وَنَحْوِه، كَمَا فِي الآية: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ}⁣[ص: ٤٤] ا. هـ. هامش الأصل. وقال في الصحاح: الضِغْثُ: قَبْضَةُ حَشيشٍ مُخْتَلِطَةُ الرَّطْبِ باليابِس. ا. هـ.