حديقة الحكمة النبوية في تفسير الأربعين السيلقية،

عبدالله بن حمزة (المنصور بالله) (المتوفى: 614 هـ)

الحديث الثالث عشر

صفحة 157 - الجزء 1

  وقد روينا عن النبي ÷: «إنَّ اللهَ لَمَّا خَلَقَ الْجنَّةَ قَالَ: يَا جِبْرِيلُ؛ اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: يَا رَبِّ؛ وَعِزَّتِكَ لَا يَسْمَعُ بِها أَحَدٌ إلَّا دَخَلَهَا، ثُمَّ حَفَّهَا بِالْمَكَارِهِ، فَقَالَ: يَا جِبْرِيلُ؛ اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: يَا رَبِّ؛ وَعِزَّتِكَ لَا دَخَلَهَا إلَّا مَنْ رَحِمْتَ، ثُمَّ خَلَقَ النَّارَ، فَقَالَ: يَا جِبْرِيلُ؛ اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: يَا رَبِّ؛ وَعِزَّتِكَ لَا عَلِمَ بَهَا أَحَدٌ فَدَخَلَهَا، ثُمَّ حَفَّهَا بِالشَّهَوَاتِ، فَقَالَ: يَا جِبْرِيلُ؛ اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: يَا رَبِّ؛ وَعِزَّتِكَ لَا نَجَا مِنْهَا إلَّا مَنْ رَحِمْتَ».

  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أنَّ المغترين بالله تعالى يُعَلِّلُون نفوسهم ويخدعونها بأنواع الشبه الركيكة، فمن عابدِ حجرٍ نحتها بيده أو اشتراها بسبده⁣(⁣١)، أو شجرٍ تأنَّق في صنعه نجَّارُه، فكَثُر لثمنه دينارُه، فأتى المغْتَرُّ فأبرز فيه عَرْضاً ونقْداً ليكون - وهو المشتري المالك له - عبداً، والجماد المصنوعُ المملوك له ربّاً وردءاً، وقد حكى الصادق سبحانه أنهم سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدّاً، فيا لها من عجيبة تُنْسِي العجائب، وغريبة تُزري بالغرائب.

  وإنْ فكرتَ في عَبَدَةِ النيران ومُعَظِّمَة الثيران نظرتَ إلى أمرٍ تُنْكِرُه العقولُ السَّويَّة، وتَنْفُرُ عنه النفوسُ الأبيَّة، ثم انظرْ إلى المتدينين من أهل الكتب أين قَذَفَ بهم التعمُّقُ والعُجْب؟! فكم من هائدٍ⁣(⁣٢) منقطع قَتَلَ النبيين ليتمسك بزعمه بأحكام النبوة، ومُتَنَصِّرٍ جعل للعبد المربوب صفة اللاهوتية، ومُسْلِم عقَّبَ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ÷ بسفك دماء الذُّرِّية الزَّكِيَّة، والعترة الطاهرة المرضية، الذين شهد الذِّكْرُ الحكيم بأنهم خيرُ البرية، هذا وعالِمٌ بزعمه أخذ منهم ما عَلِم، وهو لأثْلَتهم⁣(⁣٣) الثابتة الطيبة ينحت وَيَصِم، وَيَرُومُ فَصْمَ


(١) السَّبَدُ: الشَّعَرُ، في قولهم: مَا له سَبَدٌ ولا لَبَدٌ أَي ما له ذو شعر ولا صوف ولا وبر يَتَلَبَّد، تمت، هامش (أ).

(٢) هائد: مُتَّبِعٌ دِينَ الْيَهود، وأصل الكلمة: هَادَ: تَابَ وَرَجَعَ ... فَهُوَ (هَائِدٌ) وَقَوْمٌ (هُودٌ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: (التَّهَوُّدُ) التَّوْبَةُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَيُقَالُ أَيْضًا: (هَادَ) وَ (تَهَوَّدَ) أَيْ صَارَ (يَهُودِيًّا) ا. هـ. (انظر مختار الصِّحَاح: ٣٢٩) وكذلك مُتَنَصِّر: بِمَعْنَى مُتَّبِعٌ دِينَ النَّصارَى، ا. هـ.

(٣) قال في هامش الأصل: الْأَثْلَةُ تُسْتَعْمَلُ فِي أَصْلِ الْإِنْسَانِ وَشَرَفِهِ، اسْتِعَارَةٌ، تمت. وقال في المصباح المنير: الْأَثْلُ شَجَرٌ عَظِيمٌ لَا ثَمَرَ لَهُ، الْوَاحِدَةُ أَثْلَةٌ، وَقَدْ اُسْتُعِيرَتْ الْأَثْلَةُ لِلْعِرْضِ فَقِيلَ: نَحَتَ أَثْلَةَ فُلَانٍ؛ إذَا عَابَهُ وَتَنَقَّصَهُ، وَهُوَ لَا تُنْحَتُ أَثْلَتُهُ؛ أَيْ لَيْسَ بِهِ عَيْبٌ وَلَا نَقْصٌ، ا. هـ. المصباح (١/ ٤) وَيَصِمُ: يُعِيبُ، ا. هـ.