[موعظة شافية كافية]
  {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ٢٥ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ٢٦} معناه خائفين {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ٢٧}[الطور] نوع من أنواع العذاب نعوذ بالله تعالى من عذابه، ونسأله الفوز بجزيل ثوابه.
  وإن أردت العَجَبَ الذي يشغل القلوب والأفكار فانظر إلى الصفوة المكرم ÷، وقد غُفِر له ما تأخر من ذنبه وما تقدم، فإنَّه خاف الله تعالى خوفاً عزفه عن الدنيا جُملة، فما أدَّخر منها كُراع نملة، وقد كان مَلك جزيرة العرب من عُمان إلى جُدَّة، ومن عدن إلى طرار الشام(١)، وجُبِيَ إليه خراجها، فما خلَّف ديناراً ولا درهماً، ولا ذهباً ولا فضة، وخلَّف درعَه مرهونةً عند يهودي في ثلاثين صاعاً من شعير، وعرَّض نفسه للناس في جناياتٍ إنْ كانت منه إلى أحدٍ منهم في قصصٍ طويلة خوفاً من الله تعالى، وقد قال لبعض أصحابه في حديث طويل: وقد قال له: يا رسول الله؛ لسْتَ كأحدنا؛ قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال # وقد غضب: «وَالله إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ للهِ وَأَعْرَفُكُمْ بِمَا أَتَّقِي» وكان ÷ خميص البطن، مُنخرق القميص، يُمْسِي ساهِرَ العين، يبكي ويتململ ويصلي حتى تورَّمت قدماه، فكيف بنا وقد خوطبنا بقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ٧ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ٨}[الزلزلة].
  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أنَّ الواجب على العاقل الاستعداد والتأهب للمعاد، واتخاذ التقوى صاحباً في جميع الأعمال لينجو غداً من الأهوال، وأن يُقدِّم النية على عمله ليقع خالصاً لربه، فقد قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}[البينة: ٥] والإخلاص لا يكون إلا بالنية؛ لأنه لا يجوز إثبات أحدهما ونفي الآخر، لا تقول: أخلصتُ العمل لله وما نويتُه، ولا نويتُه وما
(١) في جميع النسخ: طرار، ولعله: أطرار، بمعنى أطراف، وقال في هامش الأصل: يعني دُومة الجندل، ا. هـ. ودُومة الجندل: أهل اللغة يضمون الدال، وأهل الحديث يفتحونها، وهي حصن منيع ومعقل حصين، والآن تتبع منطقة الجوف السعودية في أقصى الشمال واقعة على بعد ثمان مراحل من تبوك في الشمال الشرقي منها، (انظر نزهة المشتاق في اختراق الآفاق للإدريسي ص ٣٥٢).