حديقة الحكمة النبوية في تفسير الأربعين السيلقية،

عبدالله بن حمزة (المنصور بالله) (المتوفى: 614 هـ)

[الغضب]

صفحة 204 - الجزء 1

  منها: أَنَّ هذا الوَساع في الرزق في علمه تعالى مفسدة، وأنه لو فعل للكفار ما يقدر عليه لأطبق الخلْقُ على الكفر؛ لميلهم إلى العاجل، وكانوا بالاجتماع على الكفر أُمَّةً واحدة، فذلك هو المانع من التوسيع إلى هذا الحد، وأنه تعالى لا يبخل بالدنيا على الكفار؛ لأنها غير دار الثواب، وهي حقيرة عنده لزوالها وانتقالها، فلم يرض بها ثواباً لأوليائه، ولا عقاباً لأعدائه، وفيه تنبيه للمؤمنين على ترك الافتتان بما يقع في أيدي الكفار من الأموال الجليلة، فلولا المفسدة لزادهم؛ إذ الدنيا لا خطر لها، وقد أوضح ذلك بقوله تعالى: {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}⁣[الزخرف: ٣٥] فالواجب على المسلم العاقل أن يحترز من طلب فوق الكفاية؛ لأنه تعالى قد صرح بأنه في معلومه يؤدي إلى الطغيان - أعني طلب ما فوق الكفاية - وقوله الحق الذي لا مِرْيَةَ فيه؛ لأنه قال: أَنْتَ فِيمَا يَكْفِيكَ وَتَطْلُبُ مَا يُطْغِيكَ، والطغيان هلاكٌ عاجل، وحتفٌ قاتل، فأيُّ جهل أعظم من جهل مَنْ سعى في تحصيل أمرٍ قد قام له الدليل بأنَّ فيه هلاكه، وفي تركه فِكاكه.

  قوله #: قال تعالى: لَا بِقَلِيلٍ تَقْنَعُ، وَلَا مِنْ كَثِيرٍ تَشْبَعُ.

  القناعة نقيض الطماعة، وهي من المصادر بالهاء كالشباعة والشناعة، والقناعةُ: هي الرِّضى بالنصيب المقسوم من الرزق المحتوم. والقليلُ نقيض الكثير. والشِّبَعُ نقيض الجوع، والقناعة والشَّباعة يعودان إلى القلب والنفس لا إلى البطن؛ لأنَّ أقلَّ الأشياء يسدُّه، وأدناها يملأه.

  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أنَّ ابن آدم لا يُقْنِعُه قليل الدنيا⁣(⁣١)، ولا يُشْبِعُه كثيرها، وإنما الدنيا كما يعلمه الكافة قليل وكثير، فكلُّ واحدٍ منهما صرَّحَ الحكيمُ سبحانه أنَّ ابن آدم المتوَسِّعَ لا يَقِفُ عنده؛ إذ القليل لا يُقنعه، والكثير لا يُشبعه، وقد رأينا ذلك جهاراً، وتيقنَّاه أسفاراً من أهل الجمع والادخار، والتكاثر والاحتكار، الذين وجَّهُوا إلى جمع الدنيا هِمَمَهُم، وجعلوا لها سعيَهم، وصرفوا إليها رغبتهم، ونسوا الأمر الذي خُلِقُوا له، وغفلوا عن الهول الذي وُعِدُوا به، وفي ذلك ما رُوي عن النبي ÷ أنه قال: «لَوْ أنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَيْنِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى إلَيْهِمَا ثالِثاً، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ» فالسعيد على ذلك من قَنَّعَ نفسَه بالكفاف، وألبسها ثوب العفاف، ورضي بما رضي له الكريم، وقَنِعَ بما أعطاه الحكيم.


(١) لفظة: (الدنيا) سقطت من الأصل.