[تفسير قول الله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة} ... الآية]
  قوله #: فَقَالَ: يَا رَبِّ مَا بَقِيَ مِنْ حَسَنَاتِي شَيْءٌ.
  (يا رب) نداءُ خضوع واستعطاف، وذُلٍّ واعتراف. ما بَقِيَ: إخبار منه قرَّره الْحَكَمُ العدلُ سبحانه عليه؛ لأنَّ (مَا) ورَدَتْ نافية لما بقي، والباقي هو الموجود الدائم، وهو نقيض الفاني. والحسنات: هاهنا الأملاك المستحسناتُ كما قدمنا، فكأنه قال: ما بقي في يدي شيء مما أملك من المستحسنات أَخْرُجُ به من مظلمة أخي بإعطائه إياه لبُعْدِهما من أماكن الأملاك؛ لِمَا علم الله تعالى في ذلك من الصلاح لهما بمشاهدة الحال، ولنا بالخبر عن قصتهما.
  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أنَّ الحسنات التي هي الأملاك النفيسة لا بد من مفارقتها، وأن التبعات الشديدة لا بد من موافقتها، فهل من مُتَيَقِّظٍ في طلب نجاته، ومُعْطٍ من حسناته قبل فراق حياته، فإنَّ الدنيا دارُ غرور لمن اغْتَرَّ بها، ومَتْجَرِ سرورٍ وحبورٍ لمن اتَّعظ بعظاتها، واحترز من تبعاتها، وقدَّم المحبوب من حسناتها، وجاد بالمطلوب من خيراتها، وقَنِع بالقليل من أقْواتها، وخاف المحذور من مفاجئ بَياتِها، واستصحب الممكن من عجالة بتاتها.
  قوله #: قَالَ: يَا رَبِّ فَلْيَحْمِلْ مِنْ أَوْزَارِي.
  هذا خطابٌ منه للحَكَمِ القادر العدل الذي لا يُرَدُّ قضاؤه، ولا يُدْفَعُ حكمه، ولا يُتَعَدَّى رسمه، قوله: فَلْيَحْمِلْ مِنْ أَوْزَارِي، أصل الحَمْل على الظهر أو في البطن، وقد يُفرق بينهما بالفتح فيما يكون في البطن وبالكسر فيما يكون على الظهر، ثُمَّ صار ذلك يفيد كل مؤنة يتولاها الإنسان عن غيره، يقول قائلهم: احمل عني هَمَّ هذا الأمر، وفلانٌ حَمَّال أعباء الأمور مُشيّع. والأوزار: في أصل اللغة هي الأثقال، وقد قال تعالى: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا}[محمد: ٤] معناه أثقالُ همِّها وسلاحِها، والمراد بالأوزار في هذا الخبر الذنوب لأنها تُثْقِلُ صاحبها في الآخرة ثِقْلَ الكُلفة، ولا تثقله تثقيل رجحان الثِّقَل والخِفَّة، والذنوبُ لا يصح أن يحملها أحدٌ عن أحدٍ، لأنه تعالى يقول: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ}[العنكبوت: ٤٠] وبقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}[الأنعام: ١٦٤] [الإسراء: ١٥] [فاطر: ١٨] [الزمر: ٧]. وإنما المعنى في ذلك: إنَّ لهذا الذي ظلمني أعواضاً عندك، وإني قد استحققت منها بقدر ما تَعْلم من مبلغ ظُلامتي، وهي تُسْقِطُ مقدارها في علمك من ذنوبي، فإذا حملها بذلك كان كأنَّه حَمَلَ أوزاري؛ إذْ كان سقوطها في الحكم من جهته، وقولُه: فَلْيَحْمِلْ مِنْ أَوْزَارِي؛ ليس بسؤال، إذ ذلك كائن لا محالة ممن لم يخرج عن عهدة ما لزمه لأخيه في