حديقة الحكمة النبوية في تفسير الأربعين السيلقية،

عبدالله بن حمزة (المنصور بالله) (المتوفى: 614 هـ)

[تفسير قول الله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة} ... الآية]

صفحة 215 - الجزء 1

  دار الآخرة، وهو اليوم الذي يُحْمَى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم من بين أيديهم، ثم ظهورهم من خلفهم، وجنوبهم عن أيمانهم وشمائلهم، فلا يجدون عنها محيصاً، ثم يُعَرَّفُون: إنَّ هذه الكنوز التي ادخرتموها للشدائد ولم تنفقوها في سبيل الله ولا تُسَلِّموا منها حق الله إلى وُلاته وأربابه قد صارت عليكم شديدةً تَصْغُر إلى جنبها الشدائد، وآبِدَةً⁣(⁣١) تُحْتقَر في جنبها الأوابد، فيكون ذلك أعظم لحسرتهم وندامتهم وأسَفِهم وغرامتهم.

  وذكر الكنوز بالكي وإن كانوا في النار، والكي خصوص والحريق عموم، لأن الله تعالى يجعل في تلك الكنوز من الحرارة ما يصير بمنزلة الكي للجسد السالم من الحريق لزيادة ما تختصُّ به من الحرارة، وقد قال عبد بني الحسحاس:

  وَرَاهُنَّ رَبِّي مِثلَ ما قَد وَرَيْنَني ... وأَحمَى عَلى أَكبادِهِنَّ الْمَكاوِيا

  فأضاف إلى عذاب الوَرْي عذابَ الكي؛ لأنه عندهم من الأمور الهائلة، فعند ذلك يَوَدُّون أنَّ الذهب كان ذاهباً، وأن الفضة كانت مُنفَضَّة، وأنهم لم يُعْرَفُوا بكسب ذهب ولا فضة.

  ولا يقال (كنزٌ) لِمَا مُنِعَتْ زكاته من سائر الأموال سوى الذهب والفضة؛ لأن النبي ÷ علَّق الكنز بالذهب والفضة فقال: «كُلُّ مالٍ بَلَغَ النِّصابَ، فَأُخْرِجَتْ زكاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ» في قصةٍ⁣(⁣٢)، ذهبٍ أو فضةٍ، وعن بعض الملوك التبابعة فيما يروى:

  وَأُنْبِئْتُ في الصِّين لي بُغْيَةً ... ثِيابَ الْحَرِيرِ وَكَنْزَ الذَّهَبْ

  فخصَّ الذهب بالكنز وهذا هو رواية واسعة، وميلنا إلى الاختصار.

  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أنَّ الله تعالى بعدله أمر أن يؤتى المظلوم حقه، وأن يُنتصف له من الظالم إن لم ينتصف الظالم من نفسه، وإذا كان الأمر هكذا؛ وكان ذلك الموقف بين يديه؛ لا يتمكن الظالم فيه من الامتناع بالكُماة المانعين، ولا يُقبل فيه كما حكى الله شفاعةُ الشافعين، وكانت الدنيا داراً يُتمكَّن فيها من الاستدراك والخلاص والفكاك، فأي وجه للغفلة عن طلب الخلاص قبل هجوم يوم القصاص، وقول المنادي ولات حين مناص.


(١) الآبِدَةُ: الدَّاهِيَةُ يَبْقَى ذِكْرُها أبَداً، (القاموس المحيط: ٢٦٤)، وقد مر لها ذكرٌ في حاشية سابقة.

(٢) لفظة: (في قصة) سقطت من نسخة، والمعنى هو: في قصةٍ أو حادثةٍ ذُكر الحديث فيها أو بسببها.