حديقة الحكمة النبوية في تفسير الأربعين السيلقية،

عبدالله بن حمزة (المنصور بالله) (المتوفى: 614 هـ)

[في وصف يوم الهول الأكبر]

صفحة 231 - الجزء 1

  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أن من صفة أولياء الله الذين تقدم ذكرهم بأنهم لا يخافون ولا يحزنون: أنهم يهمُّون آجل الدنيا، وهو الموت والزوال، والتغير والانتقال، وتقلب الأحوال، وتصعب الآمال، فلا تزال همومهم إليه طالعة، وأفكارهم لعقاب شدائده فازعة، فأسهروا ليلهم ذكراً وفكراً، وقطعوا يومهم كدّاً وصبراً؛ لعلمهم أنْ رُبَّ مستقبِلٍ يوماً لم يستتمه، ونائمٍ ليلاً لم يستَكْمِلْه، ومنتظرٍ غداً لم يَصِلْه، وباذِرٍ لم يَحْصُدْ، وحاصدٍ لم يأكل، وآبرٍ⁣(⁣١) لم يجد، وجابي لم يعُدْ، ومُلقِح شَوْلاً⁣(⁣٢) مَلَك الفَصِيلَ سواه، وغَنِيٍّ أهلكه غِناهُ وكان فيه فَناؤه، فهل للاهتمام بالعاجل وجهٌ إذا كانت هذه صفة الآجل.

  فأمَّا الذين اهتموا بالعاجل من الناس، وهم الذين اعتمدوا على الشبهات، وأكَبُّوا على الشهوات، ومالوا إلى اللذات، فاغتروا بزهرة غرورها، ولم ينظروا في عاقبة أمورها، فطعموا حلاوتها، ولم يطعموا مرارتها، وافتتنوا بزهرتها الفانية ونَضرتها البالية، فهوت بهم الهاوية، فرمت بهم في النار الحامية، فندموا على التقدم بغير برهان، وعلى الانقياد للركون إلى دار الهوان، فكم من نادم ونادمة، ونفس سادمة⁣(⁣٣)، لم ينفعها ندمها، ولم يغن عنها سدمها، لإذهاب تلك النفوس طيباتها أيام حياتها، فلو أنها قدّمت نصيبها بين يديها، ولم تُخْلِدْ⁣(⁣٤) أبداً إليها، وتناولت منها قُوتها وقِوامها، وذكرت فَوْتها وحِمامها، ودول أيامها، ووَشَكَ فِطامها، ونقْص تمامها، وأنَّ ناجيها إلى العطب نَجاؤُه، وباقيها إلى الحِمام بقاؤه، وغنيها إلى الفقر مَحِيرُه⁣(⁣٥)، وعامر قصورها إلى القبر مصيره، غِنَاه نَصَبٌ، ومُلْكُه تَعَبٌ، وجِدُّه لَعِبٌ، جِدَّته بالية، وعزته فانية، فيا له من اهتمامٍ لم يُغْنِ عن صاحبه، ومَطْلَبٍ كان فيه هلاك طالبه.


(١) الآبِرُ: الذِي يقُومُ بِتَلْقِيحِ النَّخْلِ وإصْلاحِهِ، قال في القاموس: أبَرَ النَّخْلَ والزَّرْعَ، يأْبُرُهُ ويأْبِرُهُ، أبْراً وإباراً وإِبارَةً: أصْلَحَهُ، (القاموس: ٣٤١).

(٢) شَالَت الناقةُ بذَنَبها إذا رفعتْه عند اللقاح، الواحدة شَائِلٌ، والجمع شَوْلٌ، تمت ضياء، هامش (أ) (انظر القاموس المحيط ١٠٢١). والْفَصِيلُ: وَلَدُ النَّاقَةِ إِذَا فُصِلَ عَنْ أُمِّهِ، ا. هـ. قاموس.

(٣) السَّدَمُ، مُحرَّكةً: الحِرْصُ، واللهَجُ بالشيءِ، سَدِمَ، كَفرِحَ، فهو سادِمٌ وسَدْمانُ، (القاموس: ١١٢٠).

(٤) تُخْلِدُ إلِيها: تَرْكَنُ وَتَمِيلُ إليها وتَرْضَى بها، (انظر لسان العرب ٣/ ١٦٤).

(٥) حَارَ حَوْرًا إذا رَجَعَ، قال الله تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ ١٤} أي لن يرجع حَيًّا بعدَ المَوْتِ، تمت ضياء، هامش (أ).