الحديث الثاني والعشرون
  إلينا والآخرة وإن كان له الدنيا والآخرة؛ لكوننا في هذه ومصيرُنا إلى تلك، وهذا أمرٌ ممن يجب اتّباعه، والدنيا شغلها عتيد، وشرها شديد، فمن أخدمها نفسه استخدمته بغير أجرة، ومن كفأها لوجهها، فقد أحكم أمره، إنما هو فَجْرٌ أو بَجْر(١)، ما يكون عذرنا اليوم لأنفسنا، وغداً بين يدي ربنا إذا نوقشنا في السؤال عن واجب الأعمال؛ فقلنا: شغلتنا دنيانا، فقيل لنا: أشغلكم ما يدوم لكم، وتدومون له؟ أم ما تنتقلون عنه وينتقل عنكم؟ هلّا جعلتم اهتمامكم بدار آخرتكم التي هي دار قراركم، ومحطّ أوزاركم، فوافيتموها مستعدين، وبما قدمتم من أفعال الخير مستمدين.
  قوله #: وَلَا تُؤْثِرُوا أَهَوَاءَكُمْ عَلَى طَاعَةِ رَبِّكُمْ.
  الإيثار: هو التقديم والاختصاص. والأهواء جمع هوًى، والهوى هو الغرض الموافق للمحبوب، وسُمي هوًى لخفّته على القلوب، أُخذ من الهواء الذي بين السماء والأرض لخفته، واستمداد الأرواح من صفوته، وفُرِّقَ بينهما للتمييز بقَصْرِ هوى النفس، ومَدِّ هواء الجو.
  والطاعة نقيض المعصية، وهو الانقياد للآمر. والرَّبُّ هو المالك للتصرف.
  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أنه # نهانا نهياً عامّاً أن نؤثر هوانا على طاعة ربنا؛ لأنَّ طاعة ربنا سبب نجاتنا وحياتنا في دار السلامة، والنعمة والخلود والرحمة؛ واتباع هوى أنفسنا الأمّارة بالسوء هو سبب الخسار والدمار والخلود في النار، قال سبحانه: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ٤٠ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ٤١}[النازعات] فعقَّب نهي النفس عن هواها بوصول الجنة وسكناها، فيا حبذا ثراها، والكون في ذُراها، بين قصور وحور، وكثبان من كافور، وعيون تفور، وحدائق تمور، ونور في نور، لا يتقلب الهمُّ في قلوب أربابها، ولا يحلُّ البُؤسُ نفوسَ أصحابها.
(١) وفِي الحَدِيثِ: «إِنما هُوَ الفَجْرُ أَو البَجْرُ» البَجْرُ، بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ: الدَّاهِيَةُ، أَي إِن انْتَظَرْتَ حَتَّى يُضِيءَ الفجْرُ أَبْصرْتَ الطريقَ، وإِن خبطْتَ الظلماءَ أَفضتْ بِكَ إِلى الْمَكْرُوهِ، وَيُرْوَى الْبَحْرُ، بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ، يُرِيدُ غَمَرَاتِ الدُّنْيَا شُبِّهَتْ بِالْبَحْرِ، انتهى، من بعض كتب لغة الحديث، ونحوه في نهاية ابن الأثير، هامش (أ). (انظر النهاية: ١/ ٩٧).