الحديث الثاني والعشرون
  قوله #: وَلَا تَجْعَلُوا إِيمَانَكُمْ ذَرِيعَةً إِلَى مَعَاصِيكُمْ.
  الإيمان في أصل اللغة هو التصديق، وهو مأخوذ من الأمن الذي هو نقيض الخوف، فالمصدِّق قد سكنت نفسه من اختلال الكلام. والذريعة ما يُتَوصلُ به إلى نيل المراد، وأحسبها مأخوذة من الذراع الذي يتناول به الإنسان غَرَضَه. والمعصية نقيض الطاعة.
  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أنه # نهى عن المهلكات، وأمر بالمنجيات، فجزاه الله خير الجزاء، وخَصَّه وأهل بيته بالصلاة، فقال #: لَا تَجْعَلُوا إِيمَانَكُمْ ذَرِيعَةً إِلَى مَعَاصِيكُمْ، يقول: لا تَوَصَّلُوا بالدين الذي هو الإيمان إلى معصية الملك المنان كما يفعله كثير من أهل زماننا هذا، فإنهم جعلوا دينهم سبباً لنيل دنياهم، ولم يجعلوا دنياهم طريقاً لآخرتهم، وفي مثلهم ما روي عن أمير المؤمنين # عن النبي ÷: «يَكُونُ في آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ يَأْخُذُونَ الدُّنْيا بِالدِّينِ، وَيَلْبَسُونَ لِلنَّاسِ جُلُودَ الضَّأْنِ مِنَ اللِّينِ، أَلْسِنَتُهُمْ أَحْلَى مِنَ السُّكَّرِ، وَقُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الذِّئابِ». وأقول صدق ~ وسلامه، فلقد رأينا هذه الصفة فيهم عياناً، وقتلناها عِرفاناً(١)، هذا على كسر الألف، وأحسب أنه السماع.
  فأما مَن فتح الأيمان رجع بذلك إلى جَمْع يمينٍ، وهي الألِيَّةُ والقَسَم، ولما كان الحالف في الغالب يبسط يمينه سميت الألِيَّةُ يميناً باسم الجارحة، فمعناه على هذا: لا تحلفوا لتصِلوا إلى معاصيكم بالفجور بربكم، فإنَّ ذلك من أقوى أسباب الهلاك، وأعظم مواقع(٢) الارتباك.
  قوله #: وَحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا.
  المحاسبة المفاعلة من الحساب، وهو المناقشة، والمقاصصة: إسقاط شيء بشيء، أو تعديل شيء بشيء، وأصله من الحَسْبِ والاحساب، وهو الكفاية والاكتفاء، حسبك أي كفاك، فلما كان مَنْ قاصص اكتفى في طلب حقه سُمِّي حساباً.
(١) قَتَلَ الشيءَ خُبْراً وعِلْماً: عَلِمَه عِلْماً تامّاً، (انظر تهذيب اللغة ٩/ ٦٣).
(٢) في النسخة (أ) ونسخة أخرى: مواضع.