الحديث الثالث والعشرون
  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أنه # لَمَّا انصرف من ذلك المقام الهائل؛ بَيَّنَ للمسلمين أنَّ الواجب الاهتمام بأمر الآخرة دون أمْرِ الدنيا، وأنَّ أمْرَ الدنيا حقير، خيرها وشرها، ونفعها وضرها، أعظم مشقة فيها الموت، فهو ألم ساعة، والفقر فهو حاجة مخصوصة إلى أمر دون أمر؛ لأن الفقر العام نعوذ بالله منه هو فقر الآخرة، إذ هو فقرٌ إلى كل شيء، فأما فقرُ الدنيا فمعه الجوارح التي قيمتها أجَلُّ من الدنيا وما فيها، والعافية التي لا يساويها شيء، والماء الذي هو أعذب مشروب، جعل الله الخلق فيه شرعاً واحداً، والهواء الذي هو مادة الأرواح لا يمنع من أحد، والظل البارد والنوم، وفي خلال ذلك لا ينقطع من رحمة الله، فالواجب - والحال هذه - الإقبال، والاشتغال بما كُلفنا أن نفعله أو نتركه من أمر الآخرة الذي بالإقبال عليه يفوز الفائزون فوزاً عظيماً، ويَصْلى المعرضون عنه عذاباً أليماً.
  فأما أمر الدنيا فقد ضُمِنَ لنا بما علم الله سبحانه أن مصلحتنا متعلقة به، إذ هو سبحانه العالم لذاته، فمن علم أن مصلحته في الغنى أغناه، ومَنْ علمها في الفقر أفقره، ومن علمها في الصحة أَصَحَّه، ومن علمها في السقم أسقمه، فأمْرُ دنيانا إذا ضمن لنا به؛ ما مُوجِبُ الاشتغال به؟! وأمْرُ أخرانا إذا كُلِّفناه؛ ما وجه الإعراض عنه؟! فإن أعرضنا عما كُلِّفناه من أمر الآخرة، وأقبلنا على ما ضمن لنا من أمر الدنيا كُنَّا قد عملنا بعكس الواجب علينا، وإن أقبلنا على ما كُلِّفناه من أمر الآخرة وأعرضنا عما ضمن لنا من أمر الدنيا كنا قد أدينا ما لله سبحانه من الفرض عندنا.
  قوله #: وَلَا تَسْتَعْمِلُوا جَوَارِحَ غُذِّيَتْ بِنِعْمَتِهِ فِي التَّعَرُّضِ لِسَخَطِهِ بِمَعْصِيَتِه.
  الاستعمالُ نقيض الإهمالِ. والجوارحُ هي الأدوات، وأصل الجَرْحِ الكسب، فلما كانت هذه الأطراف تكسب لنا الخير والشر سُميت جوارحَ، ومنه جوارح الطير أي كواسبه. والغذاء هو المادة والمتاع. والنعمة هي المنفعة الحسنة التي قَصَدَ بها صاحبها وجه(١) الإحسان إلى الغير. والتعرض هو التسبُّبُ للأمر بوجهٍ من الوجوه، وهو دون الاعتراض، كأن هذا في جنب، وكأن ذلك في وجه الأمر. والسخَطُ نقيض الرضى، وأصله الغضب. والمعصية نقيض الطاعة.
(١) لفظة: (وجه) زيادة من نسخة.