الحديث الثالث والعشرون
  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أنه # نهانا عن استعمال هذه الآلات التي هي الأيدي، والأرجل، والأسماع، والأبصار، والقلوب، والجلود في شيء مما يُسخِط ربنا، أي يُغضب خالقنا، فإنها من خلقه، غُذِّيت بنعمته، معناه أُمِدَّتْ وأُنْمِيتْ بنعمته، برزقه وإحسانه، وهل يكون - رحمك الله - أقلَّ حياء من رجل أعطاه بعضُ الناس آلة يُصلح بها زرعه، ويعود بنفعها على نفسه وولده، فعَمَدَ ذلك الرجل إلى تلك الآلة، فنقب بها دار المعطي ليسرق متاعه، أو يهلك شيئاً من بهائمه؛ فإنَّ هذا يتناهى في القبح عند العقلاء، فإنَّ الآلة لو كانت من غيره وكان الفعل قبيحاً فهو أهون، فتفكر أيها العاقل في أمرك، وانظر إلى هذه الجوارح التي هي من ربك، وغذيت بنعمة خالقك، ما عذرك إن استعملتها في معصيته عند لقائه؟! وبأي وجه تلقاه؟! ما أجرأك على ما يجرّ عليك الوبال! وأضْرَاكَ(١) بما يضرك عند السؤال!
  قوله #: واجْعَلُوا شُغْلَكُمْ بِالْتِمَاسِ مَغْفِرَتِهِ.
  جعل، وطَفِقَ، وصار معناها متقارب، وهي تصيير الفعل على وجهٍ مرادٍ، وقد تقدم معنى الشغل. والالتماس طلب الشيء، وأصله اللّمْس، لَمَّا كان الإنسان يطلب الشيء بيده لمساً عند الاستقصاء. والمغفرة: مَفْعِلَة من الغَفْر والتغفير، وهو التغطية، ولَمَّا كان رضاه يُغَطِّي ذنوب العبد سُمي غُفراناً وغَفْراً ومَغْفِرةً، ومنه أخذ الْمِغْفَرُ لتغطيته الرأسَ.
  المَعْنَى: أنه # أمرنا أن نجعل شغلنا مدة بقائنا في دار الدنيا بالتماس مغفرته، ولا يكبر ذلك في أمرها؛ إذْ بها النجاة التامّة، والسلامة الكاملة، والفوز الأكبر، فحُقَّ لنا أن نلتمسها بذهاب أموالنا جملة، وأولادنا كافة، وجوارحنا الثمينة، ونفوسنا المكينة(٢)، وأن نركب حد السيوف، ونخوض بحار الحتوف، ونظمي الهواجر(٣)، ونصل العشايا بالبواكر، نموت في حقه لنحيا، ونظمأ لنروى، ونجوع لنشبع، ونألم لنسلم، ونخسر لنغنم، وهل خسارة منقطعة يُعْتَدُّ بها في جنب حصول ربحٍ دائم، ومُلْكٍ سالم؟! وأيُّ مشقة في ألم ساعة يوجب نعيم الأبد؟!
(١) مِنَ الضَّرَاوَةِ، ضَرِيَ بِهِ ضَرَاوَةً وَضَرْياً وَضَرَاءَةً: لَهِجَ، (انظر القاموس المحيط: ١٣٠٥).
(٢) الْمَكِينَةُ: أي التي لها مَكانَةٌ وَقَدْرٌ ومَنْزِلَةٌ، ا. هـ.
(٣) الْهَوَاجِرُ جَمْعُ هَاجِرَة، وهي نِصْفُ النَّهارِ عندَ زوالِ الشمْسِ مع الظُهْرِ، ا. ه، قاموس.
وَنُظْمِي الْهَوَاجِرَ: أيْ نُعَرِّضُها للظَّمَأ، وهو كناية عن الصوم.