[التفكر والتدبر فيما يبعث فينا إيثار الآخرة على الدنيا الفانية]
  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أنه # بيَّن أن من البعيد أن يعمل للآخرة من لا تنقطع عن الدنيا رغبته؛ لأنه بشدة رغبته شغل نفسه عن العمل للآخرة، فَبَاءَ بصفقةٍ خاسرة؛ لأنه رَغِبَ فيما يجب أن يُرْغَبَ عنه، وزهد فيما يجب أن يُرغب فيه، وكذلك إذا أتْبع نفسَه شهواتها، وساق إليها لذاتها، فإنه لا ينتهي في ذلك إلى غاية تردعه، ولا مادة تنفعه(١)، بل يكون مثاله مثال من يطفئ النار بالحطب، وذلك في تقويتها أقوى سبب، فلا تَغفُل أرشدك الله عن التشمير، واركض ركض الْمُغير، وكن من الرغبة والشهوة على حذر، ولا تنقد لحكم الغَرر.
  قوله #: إِنَّ الْعَجَبَ كُلَّ الْعَجَبِ لِمَنْ صَدَّقَ بِدَارِ الْبَقَاءِ وَهُوَ يَسْعَى لِدَارِ الْفَنَاءِ.
  التصديق نقيض التكذيب. والدار هو المسكن الذي يأويه الناس، وكان أصله لدورانهم عليها وإليها، قال الشاعر:
  يَا دَارَ عَبْلَةَ بِالْجِوَاءِ تَكَلَّمِي ... وَعِمِي صَبَاحًا دَارَ عَبْلَةَ وَاسْلَمِي
  فسماها داراً، وإن كانت قد خلت من مدة.
  العجب: هو ظهور أمرٍ يخالف المعتاد، فيُحْدِثُ في القلب استطراب واستغراب، فيسمى عجباً، ولا يكون المعتاد عجباً، ولا معجِباً. والدار ما قد قدمنا. والبقاء هو الدوام والثبوت. والفناء هو الذهاب والزوال.
  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أنه # عجب كل العجب لمن صدَّق بدار الآخرة، وما فيها من النعيم واللذة للمطيعين، والعقاب والنقمة والكَرَّة الخاسرة على العاصين، ثم هو مع ذلك يسعى لدار الفناء، وقد نسي الأمر العظيم من الخير والشر، فلا أعجب من هذا، ولو شاهدنا رجلاً وَعَدَه صادقٌ أنه يعطيه على عمل مخصوص ديناراً، ثم أعطاه على ذلك العمل رجلٌ كاذبٌ درهماً، فعمل لصاحب الدرهم ولم يعمل لصاحب الدينار لقطعنا أو قاربنا بالتعجب من اختلاله، وسوء اختياره، وقد وعدنا الصادق سبحانه على عمل الآخرة الهيِّن مُلْكاً كبيراً، ووعدتنا مخايل الدنيا
(١) في الأصل: تتعقبه.