[التفكر والتدبر فيما يبعث فينا إيثار الآخرة على الدنيا الفانية]
  الْحَرْثِ}[الأنبياء: ٧٨] ولما كان أكثر ما يطلب منه النفع في متاع هذه الدنيا إنما هو بالحرث؛ استُعْمِل في كل شيء، فحرْثُ الآخرة العمل بطاعة الله في فعل ما أراد، وتركِ ما كره، وسُمي النكاحُ حرثاً من ذلك. وقد تقدم معنى السعي. والمستقر الذي ينتهي إليه الإنسان، فيستقر عنده، وهو الوطَن والعطَن.
  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أنه # أمرنا أن يكون حرثُنا لأنفسنا، وسعيُنا لمستقرنا، وهل مثل هذه النصيحة يردُّها عاقل؟! وهل أحمدُ من عَمَلِ الإنسان لنفسه، وتمهيده لمحطِّ جنبه؛ إذِ العظائم إذا تناهت في العِظَم نُسِيَ المال والأهل والولد، ونفر بنفسه وانجرد(١)، وعد ذلك من المغانم، وقد قال قائلهم يصف قوماً فاجأتهم الداهية:
  هُنالِكَ لَا تَلْوِي عَجُوزٌ عَلَى ابْنِها ... وَإنْ أكْثَرَتْ في الْقَوْلِ: نَفْسِي لَكَ الْفِدَا
  فاحْرُثْ أيها الحارث لنفسك، وإنما ذلك الحرث حرث الآخرة المحمود الغَلَّة والأثر، وهو العمل الصالح، والترك للعمل الفاضح، وكذلك إذا سعينا لمستقرنا الذي هو دار الكرامة، ومنزل السلامة في الآخرة؛ كنا قد فزنا بما نصير إليه من الخير الدائم، لأن الدنيا ليست لنا بمستقرٍّ على الحقيقة، إنما نحن كرَكْبِ السفينة، النائمُ فيها سائر، والقائمُ ساعٍ، وحَرْثُنا فيها لغيرنا؛ إذْ يشاركنا فيه عبيدُنا وإماؤنا، وأولادنا وأزواجنا، ومن ينتابنا(٢)، وأكثر الناس يحرثون للوارث، فما هو لأنفسنا على الحقيقة، فتصفَّحْ ما ذكرتُ لك، واحرُثْ لنفسك، واسعَ لمسيرك، وأطع أمر معلم الخير وقائد الرشد ÷.
  وقوله #: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ عَنْ قَلِيلٍ رَاحِلُونَ، وِإِلَى اللَّهِ صَائِرُونَ.
  الرحيل نقيض الحلول. والمصير الانتهاء.
  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أنا إذا علمنا سرعة رحلتنا عن قليلٍ بحثنا عن الزاد والدليل، وما يُحتاج إليه في السبيل، فكنَّا على أهبةٍ، من أعدَّها فاز بالسلامة، وإذا علمنا مصيرنا إلى الله وشيكاً أعْدَدْنا الجواب إذا سُئلنا عن حَقِّهِ الواجب له، العائد علينا نفعه، فلم نوقف موقف خزيٍ نعوذ بالله منه، ولا رمينا
(١) انْجَرَدَ الرَّجُلُ: أَيْ جَدَّ فِي سَيْرِهِ فَمَضَى، يُقَالُ: انجرَدَ فَذَهَبَ، وإِذا أَجَدَّ فِي الْقِيَامِ بأَمْرٍ قِيلَ: تجَرَّد لأَمْرِ كَذَا، وتجَردَّ لِلْعِبَادَةِ ... (انظر لسان العرب ٣/ ١١٧).
(٢) انْتابَ الرجلُ القومَ انْتياباً إِذا قصَدَهم، وأَتاهم مَرَّةً بَعْدَ مَرَّة، وَهُوَ يَنتابُهم، (لسان العرب ١/ ٧٧٥).