حديقة الحكمة النبوية في تفسير الأربعين السيلقية،

عبدالله بن حمزة (المنصور بالله) (المتوفى: 614 هـ)

الحديث الثامن والعشرون

صفحة 305 - الجزء 1

  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أن الناس عند إرسال الأعمال في المضمار كإرسال الخيل في الميدان بين رَجلين: مغتبط ومستيئس، والمغتبط هو مُسْتحقب عمل الخير الذي ادَّخره، وجعله في حقيبة رحله كما يستحقب الرجل درعه لحالة فزعه، ونفيس ثيابه لوقت تجمله. والمستيئس هو الذي فوَّت على نفسه فعل الخيرات، واقتناء الصالحات، فندم حين لم تُغْنِهِ ندامة ولات حين مندم.

  قوله #: أَيُّهَا النَّاسُ؛ إِنَّ الطَّمَعَ فَقْرٌ، وَالْيَأْسَ غِنىً.

  الفقر هو الحاجة، وأصله من فَقار الظهر، وهو عقوده، لما كان الفقير كأنَّ الحاجة قطعت عقود ظهره سمي فقيراً. واليأس نقيض الطمع، والطمع رغبةٌ شديدة، واليأس إعراض عن محبوب. والغنى نقيض الفقر.

  المَعْنَى: أنه # أخبرنا - وهو الصادق في خبره - أن الطمع فقر، وذلك أن الراغب في الدنيا الشديد الرغبة لا يزال محتاجاً، لأنه لا يطلب سد الفاقة فيكفيه القليل؛ وإنما يطلب الاحتكار، وليس للمحتكر غاية يقف عندها، فصاحب الطمع فقيرٌ الدهرَ؛ لأنه ما حصل له أمر نزغتْ نفسه إلى أمر آخر، واليأس هو الإعراض وقطع الرجاء عن الأمر، جعله # غنىً، لأن الإنسان إذا يئس من الشيء لم يطلبه، فصار بالإعراض عنه في صفة الغَنِيّ منه.

  قوله #: وَالْقَنَاعَةَ رَاحَةٌ، وَالْعُزْلَةَ عِبَادَة.

  القناعة مصدر القُنُوع بالهاء. والراحة نقيض التعب. والعزلة مأخوذة من الاعتزال، وهو الانفراد. عِبَادَةٌ هو التذلل مأخوذٌ من التعبيد، وهو التذليل.

  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أن القناعة تَحْمِلُ صاحبَها على ترك الحرص والطلب؛ فيستريح لهذا السبب، سميت القناعة راحة؛ لأنها ودَّت إلى الراحة، وتسمية الشيء بما يؤدي إليه شائع في كلامهم. وكذلك فإن المعتزِل وهو المنفرد من أذية الناس ولجاجهم لابد أنْ يفكر في أمره ومعاده، وعمله ومصيره، ومذهبه ودينه، فيكون - والحال هذه - قد عبد ربه بمعنى ذلَّ له، وتواضع؛ وَضَعَ نفسَه، ولا تكون العزلة عبادةً إلا على هذا المعنى؛ لأنَّ حال المعتزل يخالف حال المنغمس في الناس، لأن الاشتغال بهم وبأمورهم يمنعه مما ذكرنا، فلا تتأتَّى له العبادة؛ اللهم إلا أن يكون مداوياً لجرحاهم، حاسماً لكلومهم، مرشداً لضُلَّالهم، وازعاً لعفاريتهم عن مراداتهم في تمردهم، فإنه في