الحديث الثامن والعشرون
  المَعْنَى: أنَّ هاتين الكلمتين وما قبلهما فرائدُ(١) من الحكمة، إذا وُسِّطَتْ بها قلائد الموعظة أشرقت لها المجالس نوراً، وتأرَّجَتْ(٢) مسكاً وكافوراً، فإنها بالِغَةٌ جُهْدَها في الإبلاغ، ولِمَ لا وهي من نبي خير الأمم، وكاشف دياجير الظُّلَم، وسيد العرب والعجم، الناطق عن الوحي المحكم.
  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أن العمل لَمَّا كان به غنى صاحبه من كل فقر، وراحته من كل نصب، وظفره بكل عدوّ، ونيله لكل مراد؛ صار بمنزلة الكنز، بل هو أنفع منه. وتمثيله للدنيا بالمعدن لأنَّ الكنز يُستخرج من المعدن، وهي دار العمل، لأن فيها التكليف، فصارت بمثابة المعدن يَستخرج منه كلُّ إنسان بقدر آلته وقوته، وتوفيق الله له، ورزقه إيّاه، فهي على هذا أفضل المعادن، وأرجح المطالب، إذِ الذي يحصل منها لا تساويه الكنوز جلالة وعِظَماً، ورفعة ونفاسة.
  قوله #: وَاللَّهِ مَا يَسُرُّنِي مَا مَضَى مِنْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ بِأَهْدَابِ بُرْدِي هَذَا.
  يسرني نقيض يغمني. والماضي نقيض الآتي. والأهداب هي أطراف خيط سَدَى الثوب في نسج اليمن، وهي معروفة. والبُرْدُ هو الرداء.
  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أنه ÷ أقسم وهو الصادق القسم أنَّ الماضي من الدنيا، وهو صَفْوُها وخيرها ورَوحها وأوّلها لا يساوي عنده أهدابَ بُرده، وهي لا قيمة لها، لزواله ونقصه وانتقاله.
  قوله #: وَلَمَا بَقِيَ مِنْهَا أَشْبَهُ بِمَا مَضَى مِنْ الْمَاءِ بِالْمَاءِ.
  المشابهة والمشاكهة والمشاكلة معناها واحد.
  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أنه # أقسم أن الماضي عنده لا يساوي أهداب بُرده، وأن الباقي أشبه شيء بالماضي كالماء بالماء، ولا نعلم تشبيهاً مثل هذا، فإن المياه وإن اختلفت منابعُها وتباينت أوطانُها فإنَّ تشابُهَهُ أكثر من تشابه سائر الأجناس، فإذا كان الماضي كالباقي والماضي لا يساوي
(١) الفَرِيدُ: الدُّرُّ الْمَنْظُوم الْمُفَصَّلُ بِغَيرِهِ، وقيل: الفَرِيدُ: الشَّذْرُ مِنَ الذَّهَبِ، الواحدةُ: فَرِيدَةٌ، تمت ضياء، هامش (أ). (انظر القاموس المحيط: ٣٠٥).
(٢) الأَرَجُ، مُحَرَّكَةً، والأَرِيجُ والأَرِيجةُ: تَوَهُّجُ رِيحِ الطِّيبِ. (القاموس المحيط: ١٧٩).