[كلام في الرزق]
  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أن العبد لا يترك شيئاً خيفةَ عذاب الله سبحانه إلَّا آتى الله العبد خيراً من ذلك المودوع؛ في الدنيا أو في الآخرة، أو فيهما جميعاً، فلا يكثر ذلك من عوارفه ومننه، ولا يجب أن يكون في الدنيا لا محالة، لأن الحكمة قد تمنع من تعجيله، بأن يكون تعجيله مفسدةً في الدين فلا نعلم، ولا يجوز من الحكيم سبحانه إيصاله إلينا في الدنيا.
  فأما الآخرة فلا بد من وصوله إلينا فيها على كل حال؛ معاقَباً كان العبد أو مُثاباً، إن كان مثاباً زِيدَ لأجل ذلك في أنواع كرامته، وإن كان مُعاقَباً أُسقِط عنه من العقاب بقسطه، وذلك بلا شك أصلح له، وخير من مواقعة ما تزول لذته، وتبقى تبعتُه، فإذاً الترك أصلح وأولى.
  وإذا أتيت شيئاً تقرُّباً إلى الله (معناه: وأنت لا تقصد إلا وجه الله) أجزل الله (بمعنى أكثر ووسَّع) الجزيل (هو الكثير الواسع) لك الثواب عنه (معناه عن ذلك الفعل) لأنك قصدت به وجه الله، وجرَّدته عن الأغراض إلا التقرب إليه، فكيف - وهو أكرم الكرماء، وأرحم الرحماء - يبعدك والحال هذه! ما أسوء ظنك، وأقبح نظرك إن خُيِّلَ إليك أنه لا يُجْزِلُ ثوابك، ولا يحسن مآبك، وهو أبرُّ بك من أخيك وولدك، وأحنا عليك من والدتك ووالدك، غذاك في ظُلَم الأرحام، ولَيَّن لك المهاد، وأمدَّك بما لم تكن تقدر على الوصول إليه بحولك، فأين يُتاه بك.
  ثم هيَّأ لك الغذاء في صدر والدتك سائغاً عذباً مريئاً، يلائم طباعك، ويَسْهُلُ عليك تناولُه، وتُقْبِل إليك الوالدة، ويحنو عليك الوالد حتى يُصْلِحوا من شأنك، ويَرُمُّوا حالك.
  ولما كانت الحيوانات لا تُحْسِنُ ما يُحْسِنُ الناس جَعل أولادها شِداداً عند خروجهم، يعرفون الأُمَّ وتعرفهم، ويعينونها على نفع أنفسهم وتناول أغذيتهم، فلا إله إلا هو؛ تَعِسَ الظانُّون به سوءاً، عليهم دائرة السَّوْء، وغضب الله عليهم ولعنهم وأعدَّ لهم جهنم وساءت مصيراً.
  وتَعْساً لأهل الطبع ونكساً، هذه مشاهدة تفضحهم، وما هو الطبع؟! إنْ طولبوا لم يرجعوا إلَّا إلى عِلَّةٍ عند أهل التحصيل منهم لا تُؤَثّر في أكثر من معلول، وهذه أمور مختلفة، وأحوال متنقلة، تدلُّ على صانع حكيم، مدبر عليم، يجب في كل حال شكْرُه، ويلزم في كل أوانٍ ذِكرُه.