[مواعظ جليلة في حقيقة الدنيا]
  طَعَنْتُ ابنَ عَبْدِ الْقَيْسِ طَعْنَةَ ثَائِر ... لَهَا نَفَذٌ لَوْلَا الشَّعَاعُ أضَاءَهَا
  مَلَكْتُ بِهَا كَفِّي فَأَنْهَرْتُ فَتْقَهَا ... يُرَى قَائِماً مِنْ خَلْفِها مَا وَرَاءَهَا
  يريد أمامها، وهو ظاهر كما ترى. وقد قال سبحانه: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ٧٩}[الكهف] يريد أمامهم والله أعلم.
  والعقبة هي المرقاة في الجبل العالي، ومنها أُخذ العُقاب. والكَؤود الصعبة. وقطْعُها طلوعها ومجاوزتها. الْمُخِفُّون نقيض المثقلين، وهم الذين ألقوا باهظ الأثقال، ولم يأخذوا إلا ما يعينهم على الطريق.
  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أنه # أمر المسلمين عموماً أن يشمروا، ولا يسْتَهْوِنوا الأمر فإنه جِدٌّ، وأيُّ جد أعظم منه؟! قولٌ عدلٌ، ووعيدٌ(١) صادق، فلا أرجى من التشمير والاهتمام بالأمر، والاجتهاد في الخروج عن لوازم الحق، والتأهب بالجَمْع لما يحتاج إليه الراحل، فإنه قريب، فلا يُعلم أقرب منه، وما بُعْدُ أمرٍ نتوقعه صباح مساء، إن أمسينا انتظرناه في الصباح، وإن أصبحنا انتظرناه في المساء، وهل للغفلة عما هذا حاله وجهٌ تُحَسِّنُهُ العقول السليمة؟! ولكن التشمير لا يُجدي والتأهب لا ينفع ما لم نستكثر من الزاد؛ لاسيما وقد أخبرنا الصادق في مقاله أن السفر بعيد، وهو مدَّة قطعنا للمسافة بيننا وبين موعود ربنا، ولا أبْعَدَ من مدةٍ يومٌ فيها مقدار خمسين ألف سنة، وذلك الزاد ما هو بتات الدنيا وصنوف معايشها؛ إنما هو التقوى فيما بَيَّنه لنا الملك الأعلى بقوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}[البقرة: ١٩٧].
  فالواجب علينا - والحال هذه - أن نستكثر منه؛ إذ المقطوع به من الزاد لا يجد مُبَلِّغاً ولا مُتَصَرَّفاً، ولا إجارة ولا قرضاً إلا ما يكون معه، ولا يُمَكَّنُ من الرجعة للاستعداد، فإذا كانت هذه الصورة لزم العاقل أن يُكثر من الزاد إلى حالٍ لا تختلجه فيه الظنون أنه زائد على الكفاية، وأن يَصرف هِمَّته إلى ذلك، لأنه لا يدري متى يصيح به صائح الرحيل، فإنْ رحل وإلَّا أُرْحِل بالشدة، من غير مرضاة ولا مؤامرة، ولم يبق له عذر؛ إذ قد بعث الله إليه من لا يُشَكُّ في صدقه، وأخبر بقرب الرحيل، وبُعْدِ الطريق، وطول السفر، وأن هذا جِدٌّ لا هَزْل، فليتأهب وليشمر ويتزود، فما بقي له من عذر.
(١) في نسخة أخرى: وَوَعْدٌ.