الحديث الرابع والثلاثون
  يريد الدروع، وقد قيل في قوله تعالى: {نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ}[يونس: ٩٢] أي نلقيك على نجوةٍ بدرعك، والله أعلم.
  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أنه # أخبر أن الإنسان إذا رغب فيما عند ربه كان أقرب إلى فعل طاعته، وترك معصيته؛ إذ المعلوم أنك لا تسأل إنساناً حاجة، وترغب إليه في مسألة إلَّا وتحرَّى رضاه، وقد قال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ٧} - في الدعاء - {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ٨} في الإجابة؛ والله أعلم، فإذا فعلت ذلك أطعت الله تعالى فأحببته فأحبك، وما أجَلَّهُ من مطلبٍ أن يحبك ملك الملوك، وجبار الجبابرة، ورب الأرباب، وملك الرقاب، ومن بيده العطاء والمنع، والرفع والوضع، والتولية والخَلْع.
  وَازْهَدْ فِيمَا فِي مَا عِنْدَ النَّاسِ يُحِبُّكَ النَّاسُ، وهذا خبرٌ يجب قبوله، وقد شاهدناه عياناً، وإنما كانت القضية في الناس بالعكس من القضية في الله سبحانه؛ لأن الناس فقراء والله غني، وبخلاء وهو كريم، وعاجزون وهو قادر، فلا يُبْرِمُه إلْحاح الملحِّين، ولا يستوعبُ ما عنده الطالبون {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ٨٢}[يس] فأحبُّ العباد إليه أكثرهم مسألة له، وطلباً من سَعَةِ فضله، فما ترى هل يساجِل ذا الكرم مساجل؟! أو يماثل من يُحِبُّ السائلين الملحين مماثل؟! ما أغفَلَنا عن طلب الخير مِمَّنْ يَبذُلُه ويقدر عليه! وأكثر شغلنا بما لا يغني عنَّا شيئاً.
  فأمَّا أنَّ الزاهد في الدنيا يريح قلبه وبدنه في الدنيا والآخرة؛ فلأنّ الدنيا إذا قلَّت في عينه واستحقرها زهد فيها، فلم يطلبها بجوارحه، فاستراح بدَنُه، ولم يَهُمّ جمعها بقلبه، فاستراح قلبه، هذا في الدنيا. فأمّا في الآخرة فيستريح بدنه من عذاب الله، وقلبه من أحزان المعذَّبين وغمومهم.
  وأمَّا إتعاب الراغب فيها لقلبه وبدنه في الدنيا والآخرة فلأنه يَكُدُّ جوارحَه، ويستفرغ طاقته في تحصيلها وجمعها؛ فيكون نهاره لَمّاً، وليله همّاً، والفترات بين ذلك حسرة وغمّاً على ما فات، وعلى مالم يقع، هذا في دنياه. فأيُّ تعبٍ أعظم من هذا؟!. وأما في الآخرة فيتعب بدنه في العذاب والسَّموم، وقلبه في الأحزان والغموم، فأي تعب أعظم من هذا؟