[البلوى والابتلاء وأنواع الابتلاءات]
  لأنه لا دوام له، ولم يحزن لشقائها لأنه ذاهب ماضٍ، فالواجب على العاقل أن يعرفها، إذْ لمعرفتها هذه المزية العظيمة، وهو مصير الإنسان؛ لا يفرح لسرورها ولا يحزن لشرورها، وهذه منزلة الأنبياء $ وأتباعهم على طبقاتهم، فإن سرورها كان لا يملأ أعيانهم، وغمها لا يكبُرُ في نفوسهم، وإنما ملاحظتهم رخاء الآخرة الدائم، وهَمُّ شقائها(١) - نعوذ بالله منه - الملازم.
  قوله #: أَلَا وَإِنَّ اللهَ خَلَقَ الدُّنْيَا دَارَ بَلْوَى، وَالْآخِرَةَ دَارَ عُقْبَى، فَجَعَلَ بَلْوَى الدُّنْيَا لِثَوَابِ الْآخِرَةِ سَبَباً، وَثَوَابَ الْآخِرَةِ مِنْ بَلْوَى الدُّنْيَا عِوَضاً، فَيَأْخُذُ لِيُعْطِي وَيَبْتَلِي لَيَجْزِي.
  الخلق: هو التقدير والتصوير. والبلوى: هو الامتحان والاختبار بالمكاره في النفوس والأموال والأولاد والأعمال بالعلل الطارئة، والآفات النازلة، والمحن الواقعة، كالمرض والجذام والبرص والعمى والصمم والزَّمانة والهَرَم والفقر، وما يتخلل ذلك من الآفات والمساوئ. والعقبى: هو نهاية الأمر وموجَبُه، وهو مأخوذ من العَقِبِ لتأخُّره. والسببُ: كلُّ أمْرٍ يُتَوصَّل به إلى أمْرٍ، أو أمْرٍ يوصل إليه، وأصله الحبْل. والعطاء: نقيض المنع. والجزاء: المكافأة.
[البلوى والابتلاء وأنواع الابتلاءات]
  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أنه # أخبر أنَّ الدنيا دارُ بلوى، معنى هذا الكلام مرابط للأول لِيَهُون على المسلم أمْرُها، ويَسْتَصْغِر خَطْبَها؛ إذْ كانت دارَ البلوى، وكان عقبى الآخرة يَجْبُرُ نقصها، بل إذا علم الإنسان أن بلوى هذه الدنيا هو السَّبب الموصل إلى ثواب الآخرة، وهو ما يرجع على العبد في مقابلة ما يلحقه، وهو هاهنا لُغَوي - أعني الثواب الكلامي - إلَّا أنْ يكون في مقابلة الصبر فإنه يتفق فيه الأمر، إذ الصبر عليه الثواب.
  فأمَّا الآلام والمحن فليس عليها ثواب، وإنما عليها عِوَضٌ؛ لأنها بمنزلة أُروش الجنايات، وقيم المتلفات، فليست بثوابٍ إلا على أصل اللغة دون عُرف الكلام، وإذا علمنا ثواب الآخرة وعِظَمه وسعته وطول مدته؛ علمنا أن كل أمر يؤدي إليه خيرٌ وإنْ كان شرّاً محضاً؛ لأنَّ ما أدَّى إلى الخير فهو خير، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي، إذا أخذ منَّا القليل، وأعطانا الجزيل فهو منعم في الأخذ غاية الإنعام.
(١) في النسخة (أ): وشقاؤها ... بدون لفظة: وَهَمُّ.