حديقة الحكمة النبوية في تفسير الأربعين السيلقية،

عبدالله بن حمزة (المنصور بالله) (المتوفى: 614 هـ)

الحديث الثامن والثلاثون

صفحة 369 - الجزء 1

  الثانية: فقرٌ لا يُدرك غناه، وصدق ÷؛ إن محب الدنيا فقيرٌ طول عمره، وغايةَ دهره؛ لأنه كلما حاز منها جانباً دعاه حبها إلى طلب جانب، وليس لطالبها غايةٌ يقف عندها، وفي الحديث عن النبي ÷ أنه قال: «لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَيْنِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى إلَيْهِمَا ثالِثاً، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ» فإذا كان الأمر هكذا كان فقره غير منقطع؛ إذ الإحاطة بجميع ما في الدنيا متعذر، وبعضها يدعو إلى بعض، فالطالب لها لإطفاء سَوْرَة⁣(⁣١) حبها كالذي يطفئ النار بالحطب، كلما كثر ازدادت جحيماً ولهباً، وأجيجاً وسَخَباً⁣(⁣٢)، فلا خير في حبها أصلاً.

  والثالثة: أمل لا ينال منتهاه، ولا شك في ذلك، والأمل معروف والتعلق به من أسباب العناء؛ لأن العبد إذا أحب الدنيا امتد أمله فيها إلى ما لا غاية له، فكان منه في عناء، إذْ هو مُتْبعٌ له رجاءه، فلا يذهب شغل ذلك من قلبه.

  ولا دواء لجميع هذه الخلال إلا رفض حب الدنيا الزائلة الفانية، والإقبال على طلب الآخرة الدائمة الباقية.

  قوله #: إِنَّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ طَالِبَتَانِ وَمَطْلُوبَتَانِ، فَطَالِبُ الْآخِرَةِ تَطْلُبُهُ الدُّنْيَا حَتَّى يَسْتَكْمِلَ رِزْقَهُ، وَطَالِبُ الدُّنْيَا تَطْلُبُهُ الْآخِرَةُ حَتَّى يَأْخُذَ الْمَوْتُ بِعُنُقِهِ، أَلَا وَإِنَّ السَّعِيدَ مَن اخْتَارَ بَاقِيَةً يَدُومُ نَعِيمُهَا عَلَى فَانِيَةٍ لَا يَنْفَدُ عَذَابُهَا.

  الطالب والمطلوب معروفان. والاستكمال الاستيلاء على الأمر بكماله. والعنق معروفة. والسعيد نقيض الشقي. والاختيار نقيض الإجبار.

  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أنه # أخبر أن الدنيا والآخرة طالبتان ومطلوبتان، إلا أن طالبهما مختلف، فالدنيا تطلب من كرهها، والآخرة تطلب طالبها وكارهها، فأما طالبها فليوفَّى أجره فيها،


(١) سَوْرة الشراب: حدَّته وثورته، وكذلك سَوْرة الحُمَةِ، وسَوْرة الغَضَبِ أيضاً، وسَوْرَةُ السُّلْطانِ: سَطْوَتُه، تمت ضياء، هامش (أ).

(٢) السَّخَب والصَّخَب بِمَعْنَى الصِّيَاحِ، والصادُ والسينُ يجوزُ فِي كُلِّ كَلِمَة فِيهَا خاءٌ. (اللسان: ١/ ٤٦٢).