حديقة الحكمة النبوية في تفسير الأربعين السيلقية،

عبدالله بن حمزة (المنصور بالله) (المتوفى: 614 هـ)

الحديث الثامن والثلاثون

صفحة 370 - الجزء 1

  وأما كارهها فلِتَأْخُذَ منه لهجرانه لها، وقد أوضح ذلك # بقوله: طَالِبُ الْآخِرَةِ تَطْلُبُهُ الدُّنْيَا حَتَّى يَسْتَكْمِلَ رِزْقَهُ، وذلك لأن رزقه ليس بمشروط بطاعته، لأن الله سبحانه يرزق في هذه الدنيا من أطاعه ومن عصاه، وفي الآخرة لا يرزق إلا من أطاعه دون من عصاه، لأن هذه دار التكليف فلا بد من الإنعام والتمكين ليجب الحق على أبلغ الوجوه، وتلك الدار دار الجزاء على الأعمال، فتفهَّم الفرق بين الأمرين.

  وطالب الدنيا تطلبه الآخرة طلب ناقم الثأر حتى يأخذ الموت بكَظْمِه، فينقم لنفسه من نفسه، وأي خسارة أعظم من هذا، وجعل الأخذ بالعنق لأنه أبلغ المآخذ، ولن ينتصر من أُخذ بعنقه، وأصل ذلك في الشاة إذا أريد ذبحها أخذت بعنقها، وبيَّن أن السعيد من اختار باقيةً يدوم نعيمها وهي الجنة، جعلنا الله وإياكم من أربابها، ووفقنا للتمسك بأسبابها، والفانية التي لا ينفد عذابها هي الدنيا، ولا شك في فنائها وفناء من فيها، وأضاف العذاب الذي لا ينفد إليها لوقوعه من أجلها، وإلا فهو عذاب الآخرة دون عذاب الدنيا؛ لأن عذاب الدنيا ينفد وينحصر وينعدّ، فلما كان عذاب الآخرة موقوفاً على أعمال الدنيا أضافه إليها لحصوله من أجلها وهو لا ينفد لاستمرار الاستحقاق أبد الآبدين، ودهر الداهرين.

  قوله #: وَقَدَّمَ لِمَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ مِمَّا هُوَ الآنَ فِي يَدَيْهِ، قَبْلَ أَنْ يُخَلِّفَهُ لِمَنْ يَسْعَدُ بِإِنْفَاقِهِ وَقَدْ شَقِيَ بِجَمْعِهِ وَاحْتِكَارِهِ.

  التقديم والتسبيق والتفريط واحد، وقدومه عليه وصوله. والآن: هو الوقت الذي نحن فيه وهو معرفة لازمة. ويداه معروفتان، وذكرهما تأكيداً لا أنَّ ماله مشدودٌ بهما. والتخليف أخذ من الخَلْف وهو ما وراء الإنسان مما يناقض قُدّامه، فكأنَّ الميت ترك المال خلف ظهره. والسعادة نقيض الشقاوة. والإنفاق نقيض الإمساك. والشقاء هو التعب والمشقة. والجمع نقيض التفريق. والاحتكار ترك الانتفاع بالمال ببيع أو غيره.

  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أنه # أمر بأن يُقدِّمَ الإنسان من ماله لما يقدَم عليه من روعة الحشر وأهواله، وبيَّنَ من أي شيء يُقَدِّمُ؛ فقال: (مِمَّا هُوَ الآنَ فِي يَدَيْهِ) تأكيداً للأمر بذكر اليدين، لأن أكثر