حديقة الحكمة النبوية في تفسير الأربعين السيلقية،

عبدالله بن حمزة (المنصور بالله) (المتوفى: 614 هـ)

الحديث الرابع

صفحة 83 - الجزء 1

  قوله #: مَا بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ مُسْتَعْتَبٍ.

  أجاب القسم بـ (مَا)، والموت قد تقدم معناه. والمستعتب هو الْمُطالَب بالإعتاب، وهو تعقيب السيئة بالحسنة، والإتيان بالعذر بعد الإساءة.

  فأخبر #؛ بل أقسم وهو صادق القسم لتأكيد الحجة على جميع الأمم أنْ لا معذرة بعد الموت، ولا توبة، لأن الموت يرفع التكليف، وهذا مُهِمٌّ لا سيما على المتفكرين؛ لأن الموت إذا كان منقَطَع الاستعتاب والإعتاب وكان وقته عنهم مستوراً كانوا على وجل شديد.

  قوله #: وَمَا بَعْدَ الدُّنْيَا دَارٌ إِلَّا الْجَنَّةُ أَوِ النَّارُ.

  بعدُ نقيض قبلِ، وقد تقدم الكلام في معنى الدنيا، وأنها أوقات التكليف، لأنها أدنى إلينا من أوقات الثواب والعقاب. والدارُ ما تُسْكَن أياماً، قد تقدم الكلام فيه، وسميت الجنة جنة لإجنان أشجارها، أي سترها لعرصة قرارها، وقد كان من الأنصار شيخ يقال له حاطب قد عَشِيَ⁣(⁣١) في الجاهلية، وكان له ابن يقال له زيد بن حاطب مؤمناً، فحضر أُحُداً مع النبي ÷، فأصابته جراحات، فحمل إلى دار قومه وبه رمق، فجاءه الرجال والنساء يهنئونه ويقولون هنيئاً لك يا بن حاطب بالجنة، فنجم نفاق حاطب، فقال: خدعتم هذا الفتى عن نفسه، أتبشرونه بجنة من حرمل؟! فسمى روضة الحرمل جنة لإجنانها قرارَها، وهو ممن يعتمد على لسانه.

  فأما النار فمعناها ظاهر، وخطرها عظيم، نعوذ بالله منها، وفي الحديث: «إنَّ نَارَكُمْ هَذِه جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءاً مِنْ نَارِ جَهَنَّم» وفي آخر: «مِنْ سَبْعَينَ جُزْءاً مِنْ دُخَانِ نَارِ جَهَنَّمَ وَلَوْلَا ضُرِبَتْ عَلَى الْمَاءِ سَبْعَ مِرَارٍ» وفي أخرى: «غُسِلَتْ بِسَبْعِينَ مَاءً مَا اسْتَطَاعَ آدَمِيٌّ أَنْ يُسْعِرَهَا» وفي أخرى: «مَا انْتَفَعَ بِهَا بَنُو آدَمَ» والجميع هولٌ جسيمٌ.

  والنار أدْراكٌ، والجنة دَرَجٌ، وبين الدارين بون بعيد، وقد أقسم الصادقُ القسمِ ÷ أنْ لا دار بعد هذه الدار إلا الجنة أو النار، فكيف ينامُ هارب النار، أو يَغْفُلُ طالب الجنة.


(١) عَشِيَ عَشىً مِنْ بَابِ تَعِبَ: ضَعُفَ بَصَرُهُ فَهُوَ أَعْشَى، وَالْمَرْأَةُ عَشْوَاءُ، (المصباح المنير ٢/ ٤١٢).