حديقة الحكمة النبوية في تفسير الأربعين السيلقية،

عبدالله بن حمزة (المنصور بالله) (المتوفى: 614 هـ)

[الرضى بالقضاء، ومعاني القضاء]

صفحة 102 - الجزء 1

  وقد كنا أولى بالرضى عن الله تعالى من جميع الأمم لِمَا خصنا به من بينهم من قِصَرِ الأعمار، وتخفيف الحدود، وكرم الخِلال، وشرف الوضوء الذي أخبر نبيُّنا ÷ أنَّا نُعْرَفُ به يوم القيامة من بين الأمم، وقد قيل إنَّ أكثر معاصيهم كانت لا تتعرَّى عن الحدود، فكان أحدهم إذا قارف ذنباً أصبح مكتوباً على جبينه: إنك عصيت في كذا وكذا، ولا كفَّارة لذلك إلَّا أنْ تُصْطَلَمَ⁣(⁣١) أنفُك، أو تُقطعَ يدُك، أو تجدع أذنك، فإنْ فعل ذلك أطاع، وإن تركه عصى، والأمر علينا بخلاف ذلك كلِّه، نذنب الذنوب المتظاهرة فيسترها بحلمه، ونتوب التوبة الخالصة بيننا وبينه فيحفظ أجرها عنده، ويُظهِر ذكرها على ألسنة عباده، فله الحمد كثيراً.

[الرضى بالقضاء، ومعاني القضاء]

  وخامسها: الرِّضى بقضاء الله، الرضى نقيض السخط، وأحسنُ الناس طاعةً لله أحسنُهم رضًى عن الله.

  والقضاء في كتاب الله تعالى على ثلاثة أوجه:

  يكون بمعنى الخَلْقِ والتمام، يحكيه قوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ}⁣[فصلت: ١٢] معناه خلَقَهنَّ وأتم خَلْقهنَّ.

  ويكون بمعنى الإخبار والإعلام، يحكيه قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ٤}⁣[الإسراء] معناه أخبَرْنا وأعلمْنا.

  ويكون بمعنى الأمر والإلزام، يحكيه قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}⁣[الإسراء: ٢٣] معناه أمَرَ وألْزَمَ.

  وأهمُّ ما يتعلق بقوله #: والرِّضَى بِقَضَاءِ اللهِ؛ قضاء الفعل وقضاء الأمر، فقضاء الأمر يتعلق بالعبادات، فالواجب على العبد أنْ لا يسخطها، ويقابلها بالالتزام فعلاً وتركاً، وقضاء الفعل يتعلق بالامتحانات، لأنَّ الرضى بها من أجَلِّ العبادات، ويتعلق بالرضى في ذلك أن يُوقِع الحكيم سبحانه في أحدنا أو في ولده أو حبيبه أو غيره فعلاً تكرهه نفسُه، وينفر عنه طبعه، كالموت والزِّمَانَة


(١) صَلَمَ الشيءَ صَلْماً: قَطَعَهُ مِنْ أَصْلِهِ، وَقِيلَ: الصَّلْمُ قَطْعُ الأُذن والأَنف مِنْ أَصلهما. (لسان ١٢/ ٣٤٠).