حديقة الحكمة النبوية في تفسير الأربعين السيلقية،

عبدالله بن حمزة (المنصور بالله) (المتوفى: 614 هـ)

[الغيبة والنميمة، والاستطالة في عرض المسلم، والسعاية بالمسلمين]

صفحة 107 - الجزء 1

  قد تقدم الكلام في معنى العبودية وأصل التسمية، وكذلك الكلام في الكتابة.

  فمعنى ذلك أن اسمه لا يُكتَبُ في الذكر الحكيم في ديوان المسلمين حتى تكون صفته ما ذكر #، وهو أن يَسْلَمَ الناسُ من شرِّه وضُرِّه بجميع جوارحه، وإنما خصَّ اليد واللسان لأنَّ عليهما مدار أكثر الأعمال، أما اللسان فبها تقع الغيبة، والنميمة، والسعاية إلى السلطان الباغي، والإغراء، والتهدد، والاستخفاف ... إلى غير ذلك من المؤذيات، وهذه الأمور من أشق ما يلحق بالمسلمين ضررُه، فترْكُها حينئذ يكون من أفضل الإسلام، وقد روينا عن جابر بن عبد الله قال: أتى رسولَ الله ÷ رجلٌ فقال: يا رسولَ الله؛ أيُّ الإسلام أفضل؟ قال: «مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» قال: فَأَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «مَنْ عُقِرَ جَوَادُهُ وَأُهْرِيقَ دَمُهُ» والآثار في مثل هذا عن النبي ÷ كثيرة واضحة، وميلنا إلى الاختصار، فلنذكر من كل شيء طرفاً.

[الغيبة والنميمة، والاستطالة في عرض المسلم، والسعاية بالمسلمين]

  أما الغِيبة فروينا عن أبي سعيد الخدري عن النبي ÷ أنه قال: «الْغِيبَةُ أَشَدُّ مِنَ الزِّنَى» قيل: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال رسول الله ÷: «إنَّ الرَّجُلَ يَزْنِي ثُمَّ يَتُوبُ فَيَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِ، وَإنَّ صَاحِبَ الْغِيبَةِ لَا يُغْفَرُ لَهُ حَتَّى يَغْفِرَ لَهُ صَاحِبُهُ» فصرَّح ÷ بأنها أشدُّ من الزنى، ثم بيَّنَ وجه العلة، وقد علم الكافَّةُ ما قبَّح الله تعالى من أمر الزنى بقوله: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ٣٢}⁣[الإسراء] الفاحشةُ مأخوذةٌ من الفُحش وهو القُبح المتناهي، وساء: شَنُعَ وقَبُحَ، سبيلاً: أي طريقاً، فإذا كانت الغِيبة أشدّ من هذا فكيف يكون حالُها أعاذنا الله منها.

  وأمّا النميمةُ فهي أشدُّ ضرراً من الغيبة؛ لأنَّ بها تُسفَك الدماءُ، وتُستباح القرى، وتُركَب الدهماء، وهي الداء العَياء، والجرح الذي لا يبرأ، وفي غريب الحديث: «لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ قتَّاتٌ» فسَّره أهلُ العلم بالنمَّام؛ لأنَّ القَتَّ النميمةُ في كلام العرب، وهذا خَبَرٌ مُرْعِبٌ للمتوسمين، لأنا


= مسند الشهاب للقضاعي ١/ ١١٩) رقم (١٤٨) وفي كتاب التمهيد لابن عبد البر بسنده إلى الإمام جعفر الصادق عن آبائه عن رسول الله (١٢/ ٢٦٥) وبلفظ: «نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ، وَعَمَلُ الْمُنَافِقِ خَيْرٌ مِنْ نِيَّتِهِ ..» في المعجم الكبير للطبراني (٦/ ١٨٥) رقم (٥٩٤٢) وحلية الأولياء، عن سهل بن سعيد.