[الغيبة والنميمة، والاستطالة في عرض المسلم، والسعاية بالمسلمين]
  الصَّادِقُونَ ١٥}[الحجرات] فهذه(١) بيانٌ لِمُجْمَلِ لفظ المؤمنين، فيجب أن يُراعى فصولها ويُتَعرَّفَ معانيها، إذ لا إيمان لمن أخَلَّ بشيء منها؛ لأنَّ الحكيم جلَّ وعلا عقَّبَ التأكيدَ بالنفي، ثم فصَّل معاني الإيمان، فبدأ سبحانه بالتصديق باللسان والقلب؛ لأنَّ تصديق اللسان لا حكم له، وقد كذَّب الله المنافقين لَمَّا قالوا الحقَّ بألسنتهم ولا علم في قلوبهم، وذلك ظاهرٌ في قوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ١}[المنافقون] فجرى التصديق باللسان من دون اعتقادٍ في القلب صحيحٍ مجرى الاستهزاء، فلذلك استَحقَّ فاعلُه الذمَّ والعقاب.
  ولا يقع الإيمان بالله تعالى وبرسوله ÷ إلا بمعرفة، ولا تقع معرفةٌ في ذلك مع بقاء التكليف إلا بدلالة، سيما وقد أكد ذلك بترك الارتياب، ولا يزول الارتيابُ إلا بعد استحكام العلم بالبرهان، فيجبُ معرفة الباري تعالى وصفاتِهِ، وما يجوز عليه وما لا يجوز، وأفعاله وأحكام أفعاله، وما يجوز عليه في ذلك وما لا يجوز، والنبوّة وما يتبعها، والشرائع وما يتبعها، بأدلَّةٍ واضحة، والعمل بمقتضى ذلك، ولذلك عقبه بذكر العمل، وابتدأ بذكر أفضل الأعمال الذي هو الجهاد، لأنَّ به خمَدت نيران الضلال، واشتعلت أنوار الحق، وكُبِّرَ به الحكيم تعالى من رؤوس الجبال وبطون الأودية، ونكص الشيطان على عقبيه، وتبرأ ممن اعتمد عليه لَمَّا نظر إلى أولياء الله مستبسلين للموت، كأنهم جمال تَحْطِمُ يبساً، همُّهُم أمامهم.
  وقدَّم ذكر الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس لأنَّ المقاتلَ أكثرُ من المنفِقِ فيما نشاهده، فكان الإنفاق أصعبَ الأمرين على النفوس، وبه تُجَهَّزُ الجيوش، وتُعان الغزاة، وتُبْلَغُ الأغراض في العدو، ودِرْهَمُهُ سبعمائة درهمٍ، ودينارُه سبعمائة دينارٍ، هذا الفرض العام، وقد يضاعف الله تعالى لمن يشاء - وهم أهل القصود والمعرفة بوجوه الإيقاعات - أضعافاً لا يعلم بها إلَّا الله، وهذا هو البيع المفيد، والمتجر الربيح، وقد روينا عن رسول الله ÷ أنه قال: «مَنْ جَهَّزَ غَازِياً أَوْ حَاجّاً أوْ خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ».
(١) في نسخة: فهذا، ولعل الضمير هنا يعود على الآية.