حديقة الحكمة النبوية في تفسير الأربعين السيلقية،

عبدالله بن حمزة (المنصور بالله) (المتوفى: 614 هـ)

[الغيبة والنميمة، والاستطالة في عرض المسلم، والسعاية بالمسلمين]

صفحة 111 - الجزء 1

  أجَارَتُنَا بِينِي فَإنَّكِ طَالِقَهْ ... كَذَاكَ خُطُوبُ الدَّهْرِ تَغْدُو وَطَارِقَهْ

  ولم يوجد بالهاء إلا هذا، وإنما هو طالق بغير هاء، وجاء الإسلام بتوكيد ذلك في الكتاب العزيز، قال الله سبحانه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا ٣٦}⁣[النساء] الجارُ ذو القربى قريب النسب، والجار الجنب بعيد النسب، والصاحب بالجنب هو الرفيق في الطريق، فقد رأيت كيف قرن الحكيم سبحانه حقَّ الجار بحقِّه وحقِّ أهل الحقوق عنده، وجعل رعايته جزءاً من أجزاء عبادته.

  قوله #: وَلَا يُعَدُّ مِنَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَارَ مَا بِهِ الْبَأْسُ.

  العدُّ هو إضافة الشيء إلى الشيء بعد الابتداء، وأوَّل مراتب العدِّ في اللفظ الواحدُ، وفي الفعل ثَنْيُ الخنصر، ومنه قولهم في المدح: فلان تُثْنَى الخناصرُ باسمه، أي تُثْنَى بِعَدِّهِ أوَّلاً قبل غيره، وقولهم: فلانٌ واحدُ عصرِه، معناه يُبْدَأُ في لفظ العَدِّ بذكره، فمعنى قوله #: يُعَدُّ مِنَ الْمُتَّقِين، أي يُجعل من آحاد جُملتهم فيكون منهم، والمتقون هم المحاذرون مواقعةَ المعصية وتركَ الطاعة، فكأنهم يجعلون محاذرتهم تِقَاءً لهم من المغاضب والعذاب، وهم خُلْصان عُبَّادِ الله، والموعودون بعاقبة الدار وفوز الجوار.

  قوله #: حَتَّى يَدَعَ، معناه حتى يترك. والبأسُ ما تَبْأسُ منه النفسُ بمعنى تنفر، فما لا بأس به هو ما لا كراهة فيه خوف ما فيه الكراهة تحفُّظاً واحتياطاً للدين، وإشفاقاً من مواقعة الخطأ، وفي الحديث: «إنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى وِحِمَى اللهِ تعالى مَحَارِمُهُ، فَمَنْ أَرْتَعَ قَرِيباً مِنَ الْحِمَى يُوشِكُ أنْ تَقَعَ فِيهِ سَائِمَتُهُ» فأشار # إلى التباعد عن الأمور التي تقرب من المحظورات؛ إشفاقاً من التجاوز إليها، والهجوم عليها، لسهوٍ عارٍ، أو بادرةِ غضَبٍ، أو غلبةِ هوى.

  قوله #: أَيُّهَا النَّاسُ؛ إِنَّهُ مَنْ خَافَ الْبَيَاتَ أَدْلَجَ، وَمَنْ أَدْلَجَ فِي الْمَسِيرِ وَصَلَ.

  أيها الناس؛ خطابٌ عام. والخوفُ نقيض الأمنِ، وقد تقدم الكلام في معناه. والبياتُ هو الهجومُ بالليل على المسترسل لإيقاع الْمَسَاءة به، وذلك ظاهرٌ عند العرب. والإدْلاجُ مسيرُ الليل من أوَّله، والإدِّلاج بالتشديد مسيرُه من آخره، قال راجزُهم: