حديقة الحكمة النبوية في تفسير الأربعين السيلقية،

عبدالله بن حمزة (المنصور بالله) (المتوفى: 614 هـ)

[الغيبة والنميمة، والاستطالة في عرض المسلم، والسعاية بالمسلمين]

صفحة 112 - الجزء 1

  إنَّ لها لَسَائِقاً خَدَلَّجا ... لَا يُدْلِجُ اللَّيْلَةَ فِيمَنْ أَدْلَجَا

  يريد لا يسير من أوَّل اللَّيل فيمن سار، (لها) عائد إلى الإبل، فأمَّا قول الآخر:

  يَقُولُ حَادِي الْقَوْمِ أَصْبِحْ أَدْلِج

  فقد قيل معناه المبالغة في الأمر، وإلَّا فلا يقع بين أهل المعرفة باللسان اختلافٌ في أنَّ الإدْلاج بالتخفيف مسير الليل في أوَّله وأنَّ الإدِّلاج بالتشديد مسير الليل من آخره، والتعريسُ النزولُ في آخر الليل للاستراحة، والتغويرُ نزول وسط النهار، والابتكارُ سير أول النهار، والتأويبُ سير آخره، والإسآدُ خلطُ الليل بالنهار في السير.

  أشار # بالبيات إلى ما لا يُؤمَن وقوعه من الجواري المفْضِعات، والكوارث المبهظات، التي تقطع التكليف، كالقتل والموت والإلجاء، وما به عاقلٌ إلَّا وجوازُ هجومِها عليه بغتةً متقرِّرٌ في عقله، ومصيبةُ الإنسان في عذاب الأبد ونكال الْمُسْنَد⁣(⁣١) أعظمُ من مصيبة الْمُبَيَّت في قتله أو سلب ماله أو روعته، وأهلُ العقل والحزم إذا خافوا البياتَ ممن يُخَافُ جانبُه سَرَوا ليلهم، ولم يناموا على الخوف، ويذمون من غفل عن ذلك، فالمخوفُ هيِّنٌ كما ترى، فما حال من خافَ الأمورَ العظيمةَ، والأهوالَ الجسيمةَ ثُمَّ تأخر عن الاستعداد، فنسأل الله سبحانه التوفيق.

  قوله #: وَمَنْ أَدْلَجَ فِي الْمَسِيرِ وَصَلَ

  إشارةٌ منه # إلى أنَّ الحازمَ لا ينام على الخوف، وأنه ينال بإدلاجه فرحتين عظيمتين يحسُن لكل واحدة منهما الفعلُ لو انفردت، فكيف مجموع ذلك؛ إحداهما السلامة من شرِّ المخوف الْمُبَيّت، والثاني الفوز بوصول الأهل والمال في الجنة، لأنَّ ما به أحدٌ إلَّا وله في الجنة أهلٌ ومالٌ، فإنْ لم يعمل عملاً يستحقُّ به ذلك الأهل والمال وَرِثَه العاملون له، وحُرِمَه الغافلون، فكيف ينام النائمون ويغفل الغافلون؟! وذلك ظاهرٌ في قوله تعالى في صفة المؤمنين: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ١٠ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ}⁣[المؤمنون] فبيَّنَ تعالى ما ذكرنا في معنى الوراثة.

  قوله #: وَإِنَّمَا تَعْرِفُونَ عَوَاقِبَ أَعْمَالِكُمْ لَو قَدْ طُوِيَتْ صَحَائِفُ آجَالِكُمْ.

  المعرفة والعلم معناهما واحد، وعاقبة الشيء ما يتعقبه من أحكام الأعمال من خيرٍ وشرٍّ، ولا بدَّ من معرفة عواقب الأعمال بالرؤية والمباشَرَة، قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا


(١) الْمُسْنَد هو الدهر، تمت هامش (أ).