الحديث الثامن
  الدنيا الفانية، وقد كان يكفيه من الدنيا اليسير لو نظر بعين البصير، واستعمل موادَّ التفكير، وأين أولئك؟ ومَنْ لنا بذلك؟!.
  وقد روينا أنَّ سعداً دخل على سلمان ® في مرضه وهو يبكي، فقال: يا أبا عبد الله أبشر، ما هذا البكاء؟ تَقْدَمُ على رسول الله ÷ وهو عنك راضٍ، فقال سلمان: يا سعد؛ سمعت النبي ÷ يقول: «مَنْ سَرَّهُ أنْ يَلْحَقَنِي فَلْيَكُنْ زَادُهُ مِنَ الدُّنْيا كَزَادِ الرَّاكِبِ» أما ترى ما قد جمعْنا؟! فبيع كلُّ ما في بيته فبلغ ثمانية عشر درهماً، فليست الدنيا على هذا بأهلٍ أن ننقطع إليها أو نعتمد عليها، وكيف وهي غرَّارة وغَرورٌ ما فيها، لا حقيقة لشيء منها، إنما هي فِكْرَةُ هائم، أو حُلْمُ نائم.
  قوله #: وَمَنْ حَاوَلَ أَمْراً بِمَعْصِيَةِ اللهِ كَانَ أَبْعَدَ لَهُ مِمَّا رَجَا، وَأَقْرَبَ مِمَّا اتَّقَى.
  المحاولة هي المفاعلة من الحَوْلِ والحيلة والمكر والغيلة، وهذه الألفاظ متقاربة، والمحاولة أنْ تأتيَ الأمرَ من جميع جهاته، وهي أحوالُه، وهذا غاية الممكن، وتحصيل المطلوب أنْ يعالجَه من كل جهة.
  قوله #: (حَاوَلَ أَمْراً) يريد وَجْهاً من وجوه مطالب الدنيا كائناً ما كان، وقوله: (بِمَعْصِيَةِ اللهِ) المعصيةُ نقيضُ الطاعة، وهي فعل ما نُهِيَ المرءُ عن فعله أو تركُ ما أُمر بفعله، والطاعةُ بالعكس من ذلك، ومحاولته بالمعصية أن يجعل المعصية صلةً إليه ولطفاً فيه.
  قوله #: (كَانَ أَبْعَدَ لَهُ مِمَّا رَجَا) من ثواب الله تعالى ورضوانه، (وَأَقْرَبَ مِمَّا اتَّقَى) يريد # من عذابه وسخطه، لا يكون للخبر - إذا كان المراد به العموم - وجه إلَّا ذلك، لأنَّا نرى كثيراً من أهل الدنيا يحاول أُموراً يرجوها بمعصية الله تعالى فينالها، بلْ رُبَّما لا يتمكن من نيلها إلا بذلك.
  ألا ترى أن معاوية لعنه الله ما اسْتَتَبَّ له الأمرُ الذي رجا من الدنيا إلا بمعصية الله في مخالفة وليِّ الأمر في الكافَّة علي ابن أبي طالب أمير المؤمنين #، واستعمالِ الأمور المحظورة في المكر والخديعة، والفساد في البلاد، فاستفحلت أموره لذلك، وحدّت شَوْكَتُه، وتقوَّى أمرُه؛ حتى استولى على أمْرِ الأمة غَصْباً بلا استحقاق، ولا هو لذلك بأهل، وقد نَبَّهَ أمير المؤمنين # على ذلك بقوله: والله ما معاوية بأدهى مني، ولكنه ينظر الفرصة وبينه وبينها حائل من أمر الله