حديقة الحكمة النبوية في تفسير الأربعين السيلقية،

عبدالله بن حمزة (المنصور بالله) (المتوفى: 614 هـ)

[قصة صاحب الخورنق]

صفحة 138 - الجزء 1

  فقالوا: لك؛ أبيت اللعن، فقال: هل تعلمون أحداً أوتي مثلَ ما أوتيت؟ فقال له رجل من الرابضة - وهم بقيَّةُ الحجة لله تعالى على كلِّ أُمَّة -: أيها الملك؛ أبيت اللعن، هل هذا الْمُلك الذي أنت فيه وصل إليك من غيرك؟ أم أنت فيه لابثٌ لم تزل؟ قال: بل وصل إليَّ من آبائي، ماتوا فورثت بعدهم ملكهم، قال: فهل تأمن أن يصيبك ما أصابهم؟ قال: هو واقع لا محالة، قال: فما أراك في شيء، قال: فما المخرج؟ قال: أحد أمرين: إمَّا أن تعمل في هذا الملك بطاعة الله تعالى، فتُنصِف المظلوم، وتُحسن إلى الرعيَّة، وإمَّا أن تعتزل الدنيا، وتنقطع إلى الله تعالى ليورِثكَ مُلْكاً لا يبلى ولا يزول. فقال له: أَنْظِرْني هذه الليلة لأنْظُر في أمري، فإنْ عزمتُ على الوقوف في مُلكي كنتَ وزيراً لا تُعْصَى، وإن انقطعتُ إلى ربي كنتَ صاحباً لا تُقْلى، فأمسى ليلته يُفكِّر، فلما كان في آخر الليل أخذ ثياب صوف، وفزع إلى الله تعالى، فلما فتح الباب وجد صاحبه عليه ينتظره، فقال: ما أجمعتَ عليه؟ قال: على ما ترى، فقال: وُفِّقْتَ، ثم ساحا في الأرض، فضُرِبت به الأمثال، فقال الشاعر⁣(⁣١):

  وَتَأَمَّلْ رَبّ الْخَوَرْنَقِ إذْ أَشْـ ... ـرَفَ يَوْمًا، وَلِلْهُدَى تَفْكِيرُ

  شَادَهُ مَرْمَرًا، وَكَلّلَهُ كِلْـ ... ـساً⁣(⁣٢) فَلِلطّيْرِ فِي ذُرَاهُ وُكُورُ

  سَرَّهُ حَالُهُ وَكَثْرَةُ مَا يَمْـ ... ـلِكُ وَالْبَحْرُ مُعْرِضًا وَالسّدِيرُ⁣(⁣٣)

  فَارْعَوى قَلْبُهُ وَقَالَ فَمَا لَذْ ... ذَةُ حَيٍّ إلَى الْمَمَاتِ يَصِيرُ

  وهي أبيات.

  وقد روينا عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله ÷: «أَكْثِرُوا ذِكْرَ الْمَوْتِ، وَكُونُوا مِنَ اللهِ تَعَالَى عَلَى حَذَرٍ، فَمَنْ يَأْمُلُ أَنْ يَعِيشَ غَداً فَإِنَّهُ يَأْمُلُ أنْ يَعِيشَ أَبَداً، وَمَنْ كَانَ يَأْمُلُ أَنْ يَعِيشَ أَبَداً يَقْسُ قَلْبُه» وصدق رسول الله ÷. فنسأل الله تعالى التوفيق لاستشعار ذكر الموت وحُسْن الاستعداد لحلول الفوت.


(١) هو عدي بن زيد العبادي، من زيد مناة. والأبيات من قصيدته المشهورة التي صدرها:

أَرَوَاحٌ مُوَدِّعٌ أَم بُكُورُ ... لكَ فاعْمِدْ لأَيِّ حالٍ تَصِيرُ

(٢) الكِلْس: شبه الجِص يُبنى به، هامش (أ) (انظر لسان العرب ٦/ ١٩٧).

(٣) السدير: نهر معروف في العراق، هامش (أ) (انظر تهذيب اللغة ١٢/ ٢٤٨).