[من أقوال أمير المؤمنين # في الرزق]
  قوله #: أَيُّهَا النَّاسُ؛ إِنَّ فِي الْقُنُوعِ لَسَعَةً، وَإِنَّ فِي الْإِقْتِصَادِ لَبُلْغَةً، وَإِنَّ فِي الزُّهْدِ لَرَاحَةً.
  القنوع: من أسماء الأضداد، وقد يكون اسماً للسائل الْمُلحِّ، وقد يكون للمتعفف، والمراد هاهنا العفة. والسَّعةُ نقيض الضيق. والإقتصادُ هو الاكتفاء بالقليل عن الكثير، وحسن الترقيح(١) والتدبير. والبلغةُ ما يوصلك من الشيء إلى الشيء بغير زيادة، لأن أصل البلاغ الإيصال. والزهدُ هو ترك أكثر الحلال خيفة من مشقة الحساب، ومواقعة العذاب، وأصل الزهد القلة، يقول قائلهم: أزهدتُ بمعنى أقْلَلْتُ، والزهيد القليل، فكأنه # قال: في القليل راحة من همِّ جمعه، وهمّ فِراقِه، ومشقة حسابه. والراحةُ نقيض التعب.
  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أنَّ من قنِع بالقليل في هذه الدنيا أفضى به القُنوع إلى السعة في الأخرى، وقد قال بعض الصالحين: إن طلبت من الدنيا ما يكفيك فأقل الأشياء منها يكفيك، وإن طلبت فوق ما يكفيك فكل ما فيها لا يكفيك، فأشار إلى أن طالب الكثير لا ينتهي إلى غاية؛ لأنَّ الاحتواء على جميع ما في الدنيا مستحيل، ومحمله - لو اتفق - ثقيل، ومرعاه وبيل(٢)، ومتاع الغرور فيه قليل، وليس إلى نيل الخلود سبيل.
  هذا ومَنْ لِلْمُخِفِّ باللَّحاق إذا أُرْسِلَتْ خيل السباق، وألصق القطيع(٣) بالساق، وكان إلى الحكم العادل الْمَساق، فكم من مُجَلَّدٍ(٤) مقطوع الأباهر، وكم من جَلْدٍ للخدِّ عاثر، وكم من
(١) التَّرْقِيحُ والتَّرَقُّحُ: إِصلاح المعيشة. (لسان العرب ٢/ ٤٥١).
(٢) الوَبِيلُ: الَّذِي لَا يُسْتَمْرَأُ. وماءٌ وَبِيلٌ ووبيءٌ: وَخِيم إِذا كَانَ غَيْرَ مَرِيءٍ. (لسان العرب ١١/ ٧٢٠).
(٣) القَطِيعُ: السَّوْطُ، قال نشوان في معجمه شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم (٨/ ٥٥٤٨) مستشهداً: قال الكميت:
فَقُلْ لِبَنِي أُمَيَّةَ حَيْثُ كَانَتْ ... وَإِنْ خِفْتُ الْمُهَنَّدَ وَالْقَطِيعَا
أَجَاعَ اللهُ مَنْ أَشْبَعْتُمُوهُ ... وَأَشْبَعَ مَنْ بِجَورِكُمُ أُجِيعا
(٤) كتب عليها في الأصل: أي مَتِين، ولَعَلَّهُ مِن الجَلَدِ الَّذَي هو الْقُوَّةُ وَالشِّدَةُ، ورَجُلٌ جَلْدٌ: أَي قَوِيٌّ فِي نَفْسِهِ وَجَسَدِهِ، (انظر لسان العرب ٣/ ١٢٥).