الحديث الثالث عشر
  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أنَّ المغترين تاهوا في بحار الاغترار، وافتتنوا بطول الأعمار حتى أتتهم رُسُلُ الواحد القهار، فأزعجتهم عن القرار، وأنزلتهم دار البوار، فيا عِظَمَها من حسرة لم يجبُرْها الصياح والعويل، ولا وُجِدَ إلى دفعها سبيل.
  قوله #: قَدِمُوا عَلَى مَا عَمِلُوا، وَنَدِمُوا عَلَى مَا خَلَّفُوا.
  القدومُ هو الورودُ، قال راجزهم:
  أَقْدِمْ فقَدْ قَدِمْتَ خَيْرَ مَقْدَمِ ... قَدِمْتَ أَيَّامَ سُعُودِ الْأَنْجُم
  والأعمالُ والأفعالُ معناها واحدٌ، وهو ما يحصل بحسب الدَّواعي، وينتفي بحسب الصوارف، ومن ذلك أعمالُ الخير المحمود العواقب، ومنه الشرُّ الرامي بعامله في المعاطب. والندمُ هو ألَمُ القلب وأَسَفُه، ومعناه ظاهرٌ عندهم، وشاهده موجود في لسانهم، قال الفرزدق:
  نَدِمْتُ نَدامَةَ الكُسَعِيِّ(١) لَمَّا ... غَدَتْ مِنِّي مُطَلَّقَةً نَوارُ
  ومخلَّفُهم ما تركوه خلف ظهورهم من نضرتهم وسرورهم، وملكهم وحبورهم، وجِنانهم وقصورهم، التي صارت عليهم نكالاً ووبالاً، بعد أن كانت نعيماً وظِلالاً، وجمالاً ومالاً.
  المَعْنَى: أنَّه # أخبر بقدومهم على أعمالهم على وجه الإجمال؛ ليكون ذلك أبلغَ في الحسرة والبَلْبال(٢)، واشتغال الخاطر والبال(٣)، لأنَّه أخبر بقدومهم على أعمالهم مجملاً، وقد دلَّ الخطاب على أنها قبيحة، فقدومهم عليها من أدهى مصيبة وأعظم فضيحة، قدموا على أعمالٍ
(١) نَدامَةُ الكُسَعِيِّ، هو مثل قديم، والكُسَعيّ هو رجلٌ اختار شجرة شوحط، فلم يزل يراعيها، حتّى إذا صلُحت اتّخَذَ منها قوساً، وبرى أسْهُماً خمسة، وكَمِنَ في ناموس اتّخذه، ورمى الوحش ليلاً؛ فمَرَقَتْ سِهامُهُ مِن الرَّمِيَّة حتّى قدَحَتْ النّار على الصّفا، فظنَّ أنَّه أخْطأ، ففعل ذلك مراراً، وهو يظنّ أنّه مخطئٌ، فكَسَرَ القوس، فلمّا أصبَحَ رأى الوَحْشَ صرْعَى فَنَدِمَ. (الأمثال للهاشمي ١/ ٢٥٦) ونوارُ اسم امرأة الفرزدق.
(٢) البَلْبَال: شِدَّةُ الْهَمِّ والوَسْواس فِي الصُّدُورِ وَحَدِيثُ النَّفْسِ، (لسان العرب ١١/ ٦٩) وقد مر.
(٣) الخاطِرُ: مَا يَخْطُرُ فِي الْقَلْبِ مِنْ تَدْبِيرٍ أَو أَمْرٍ. ابْنُ سِيدَهْ: الْخَاطِرُ الْهَاجِسُ. (لسان العرب ٤/ ٢٤٩).
والْبَالُ: الْقَلْبُ، يُقَالُ مَا يَخْطُرُ فُلَانٌ بِبَالِي. وَالْبَالُ رَخَاءُ النَّفْسِ يُقَالُ: فُلَانٌ رَخِيُّ الْبَالِ. وَالْبَالُ الْحَالُ، يُقَالُ مَا بَالُكَ، ا. هـ. (مختار الصحاح: ٤٢) والمراد هنا هو القلب.