حديقة الحكمة النبوية في تفسير الأربعين السيلقية،

عبدالله بن حمزة (المنصور بالله) (المتوفى: 614 هـ)

[الإنصاف]

صفحة 181 - الجزء 1

  فهذا كما ترى منتهى الإنصاف، وغاية الحِلم، ولو تقصَّينا شرحَ هذا المعنى وإيراد ما بلَغَنا من الآثار لطال الكلامُ، وانتقض الغرضُ في الاختصار.

  قوله #: أَلَا وَإِنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ عَبْدٌ أَخَذَ مِنَ الدُّنْيَا الْكَفَافَ، وَصَاحَبَ فِيهَا الْعَفَافَ.

  الكفاف: هو القدر المساوي للحاجة وسد الفاقة من غير زيادة. والمصاحبة: الملازمة. والعفاف: هو التحفظ عن الأمر الذي يُخَافُ بمواقعته مواقعة القبيح، يقال: عَفَّ يَعِفُّ إذا مَلَكَ نفسَه، وأكثرُ ما يستعملون ذلك في الإزار.

  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أن من نظر الدنيا بعين الاحتقار، ولم تطمح نفسه إلى زينتها، ولم يغتر بزخرفها، واكتفى منها باليسير، وجعل زاده منها كزاد الراكب الْمُسْتَنْفِر، والوافد الْمُبَشِّرِ، وحمى نفسه عن مرعاها الوبيل⁣(⁣١)، وتخفَّف عن عبئها الثقيل، وجعل العفاف صاحبه مدة أيامها، ولم يتلبس بشيء من آثامها، وزهد في حلالها، وعفَّ عن حرامها، ولم يفتتن بحُطامها، وجعل الآخرة أكبر هَمِّه، ونفر عن جمع الحطام ولَمِّه، فإنَّه الناجي من هول الحساب وغَمِّه.

  وفي ذلك ما روينا عن أمير المؤمنين # أنَّه قال: قال رسول الله ÷: «مَنْ أَمْسَى وَأَصْبَحَ وَالْآخِرَةُ أَكْبَرُ هَمِّهِ جَعَلَ اللهُ الْغِنَى فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ أَمْرَهُ، وَلَمْ يَخْرُجْ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى يَسْتَكْمِلَ رِزْقَهُ، وَمَنْ أَمْسَى وَأَصْبَحَ وَالدُّنْيَا أَكْبَرُ هَمِّهِ جَعَلَ اللهُ الْفَقْرَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَشَتَّتَ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَلَمْ يَنَلْ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُسِمَ لَهُ».

  قوله #: وَتَزَوَّدَ لِلرَّحِيلِ، وَتَأَهَّبَ لِلْمَسِيرِ.

  التزوُّدُ: رَمُّ⁣(⁣٢) الزَّاد للسفر، وسُمِّي الْمِزْوَدُ مِزْوَداً، لأنَّ زاد المسافر يكون فيه. والرَّحيلُ نقيض الحُلُول، وأصل الرحيل الرَّحل، وأصل الحلول الحِلُّ، وكَثُرَ حتى جُعِلَ ذلك لمن لم يعقد رحلاً، ولا يَحُلّ حبلاً، وقد استُعْمِلَ منه فِعْلُه، قال تعالى: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ ١ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ٢}⁣[قريش] الإلْف: العادة، وقريش: القبيلة، ولا يطلق هذا الاسم إلَّا على مَنْ


= له حرباً، واجتمعوا عند ذلك الموضع، ويلقبون بالحَرُورِيّة؛ نسبة إلى تلك الأرض (حَرُوراء) وسموا مارقة لمروقهم من الدين لثبوت الخبر الصحيح: «يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميَّة» ا. هـ.

(١) الْمَرْعَى الْوَبِيلُ: الْوَخِيم، ا. هـ. قاموس.

(٢) الرَّمُّ: إِصلاح مَا فَسَدَ ولَمُّ مَا تَفَرَّقَ، (لسان العرب ١٢/ ٢٥٢).