حديقة الحكمة النبوية في تفسير الأربعين السيلقية،

عبدالله بن حمزة (المنصور بالله) (المتوفى: 614 هـ)

[الإنصاف]

صفحة 183 - الجزء 1

  وعقَّبَ # معرفةَ الله تعالى بالطاعة له لإدخاله حرف التعقيب الذي هو الفاء⁣(⁣١)، لأن معرفة الله تعالى أصلٌ في طاعته، إذ تستحيل طاعته تعالى من دون معرفته حقَّ معرفته، بِلَا نِدٍّ ولا مَثِيلٍ، مختصّاً بصفات الكمال الواجبة له لنفسه، ولا بُدَّ في طاعته تعالى من الإجلال والتعظيم الذي يَقْبُحُ وقوعه لغير مُسْتَحِقِّهِ، فإذا عرف ربَّه الذي خلقه وربَّاه، وأغناه وأقناه، وأرشده وهداه، فأطاعه وتحرَّى رضاه؛ كان أعقل الناس، لأنه آثر هُداه على هَواه، وعَمِل لِأُخْراه، وأعرض عن دنياه.

  وكذلك من عرف عدُوَّه الذي هو نفسه الأمارة بالسوء، والشيطان الذي هو لنا بنصِّ القرآن الكريم عدوٌّ، قال الله تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا}⁣[فاطر: ٦] فعاداه وعصاه ولم يَمِلْ أبداً إلى رضاه؛ فاز بالنجاة وظَفِرَ بالحياة، ومن أطاع عدوَّه رمى به في المهالك، وأسلكه ضَنْكَ المسالك، فأوبقه وردَّاه.

  وإنما قلنا ذلك لأنَّ من لم يعرف عدوَّه لم يتمكن من الاحتراز منه، والنفس أشدُّ العَدُوَّيْنِ لِزاماً، وأنفذُهما سِهاماً، وأبْعَدُهما مَراماً، فمن أعطاها هواهَا، فقد أعطاها تَوَاهَا⁣(⁣٢)، فالمفلح من زكَّاها؛ طهَّرها وأنماها، والخائب من دَسَّاها؛ دنسها وغَيَّاها، وفي الجحيم ألقاها، بائرة حائرة، خائفة طائرة، مُرَوَّعة نافرة، تظنُّ أن يُفْعَلَ بها فاقرة، الظَّنُّ هاهنا بمعنى العلم، والفاقرة ما تَكْسِرُ فَقَارَ ظهرِه إذا حُمِّلَ ثقيل وِزْرِه.

  قوله #: وَعَرَفَ دَارَ إقَامَتهِ فَأَصْلَحَهَا، وَعَلِمَ سُرْعَةَ رِحْلَتِهِ فَتَزَوَّدَ لَهَا.

  المعرفةُ نقيض الإنكار. والدار هي التي يسكنها الدّوّار. والإقامةُ نقيض الرِّحْلة. والإصلاح تنقيتها من المفسدات، وتنزيهها من المؤذيات. والعلم هو العرفان. والسرعة نقيض الرَّيْث والبطء والأناة. والرِّحلةُ نقيض الإقامة. والتزود جمع الزاد.

  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أنَّ من عرف دار إقامته التي هي دار الآخرة؛ لأنَّ دارنا هذه طريقٌ على الحقيقة، وليست بدار نزول على الحقيقة، وقد قال بعض حكماء العرب:

  فَلَيْسَ لِعَيْشِنَا هذا مَهَاهٌ⁣(⁣٣) ... وَلَيْسَتْ دَارُنَا الدُّنْيَا بِدَار


(١) في قوله: «عَرَفَ رَبَّهُ فَأَطَاعَهُ» من أصل الحديث.

(٢) التَّوَى: الهلاك، يُمَدُّ ويُقْصَرُ، وفي الحديث: «لَا تَوَى عَلى مالِ الْمُسْلِمِ»، تمت ضياء، هامش (أ).

(٣) الْمَهاهُ: الطَّراوَةُ والحُسْنُ، (لسان العرب ١٣/ ٥٤١).