حديقة الحكمة النبوية في تفسير الأربعين السيلقية،

عبدالله بن حمزة (المنصور بالله) (المتوفى: 614 هـ)

[موعظة شافية كافية]

صفحة 184 - الجزء 1

  وإنما يطلق عليها اسم الدار بقرينة، فيقال: دار الزوال، ودار الضلال، ودار الهلاك، ودار الغرور، ... إلى غير ذلك من ألقابها الشرعية، وأسمائها اللغوية.

[موعظة شافية كافية]

  فأمَّا الآخرة فهي دار القرار، ودار المقامة، ودار الحيوان للمؤمنين، ودار البوار، ودار النَّكال، ودار العذاب للعاصين، وكِلا الدارين دائمة، وأهلها فيها دائمون، فأهل النعيم في نعيمهم لا يسأمون، وأهل العذاب في عذابهم لا يُرحمون، فإذا كانت دار الإقامة إحدى هاتين الدارين، وكانت الرحلة إليها سريعة، وكان الزاد ليس إلَّا العمل الصالح، وكان مَنْ أُمِرَ أنْ يُصْلِحَ دار إقامته قد أُتِيَ مِنْ قِبَلِ نفسه، وأُسْكِنَ في العذاب الأليم، مِهادُه الجحيم، وشرابُه الحميم، وطعامُه الزَّقوم، وفاكهتُه السَّموم، وكان من لم يتزود لرحلته أُزْعِج بغير زاد، ولم يمْهَلْ لِمَعَاد، فأيُّ عذر لمن اغتر بما هذا حاله، وبأيِّ شيءٍ يُأَسِّي نفسه، ألم ينظر الداخلين إلى الدنيا يدخلونها بغير شيء، والخارجين منها يخرجون منها بغير شيء، والمتمتعين بين هاتين الحالتين من الملوك فَمَنْ دونهم كأنَّهُم في أضغاث أحلام، وزيادتهم إلى نقصان، وربحهم إلى خسران، آخر صحتهم سَقَم، ونهاية شبيبتهم هَرَم، وغاية ملكهم عَدَم، ومنتهى حياتهم الموت، ووجدانهم الفوت، أكثر لذة ملكهم زوال عقله بالخمر، أو استخفاف حلمه بالصيد، فإذا عاد إليه عقله أشتغل بِهَمٍّ لا تنحَلُّ عُقَدُه، ولا يتقوَّم أَوَدُه، فهذه حاله حتى يُدعى إلى الحَكَم العدل الذي لا يجور، فوقف بين يديه كئيباً حسيراً، لا يملك فتيلاً ولا نقيراً⁣(⁣١)، ولا يعرف قبيلاً ولا دبيراً⁣(⁣٢)، قد جمع كثيراً، وخرج فقيراً، فصارت الجلالة واللذة عليه حسرة، والأملاك تبعةً، والملك حجة و {رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا


(١) الفَتِيلُ: مَا يَكُونُ فِي شَقِّ النَّواةِ، والنَّقِيرُ: النُّقرة التي في ظهر النَّواة، والقِطْميرُ: القُشَيْرَةُ التي على النَّواةِ، تمت ضياء، هامش (أ).

(٢) مَثَلٌ للعرب: فُلَانٌ مَا يَدْرِي قَبِيلًا مِنْ دَبِيرٍ؛ الْمَعْنَى مَا يَدْرِي شَيْئًا. ولها الكثير من التفاسير والمعاني شرحوها في كتب الأمثال والمعاجم: فقالوا: القَبِيلُ فَتْلُ القُطْنِ، والدَّبِيرُ: فَتْلُ الكَتَّانِ والصُّوف. وَيُقَالُ: القَبِيلُ مَا وَلِيَكَ والدَّبِيرُ مَا خَالَفَكَ.