حديقة الحكمة النبوية في تفسير الأربعين السيلقية،

عبدالله بن حمزة (المنصور بالله) (المتوفى: 614 هـ)

[الغضب]

صفحة 202 - الجزء 1

  قال #: قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَنْتَ فِيمَا يَكْفِيكَ وَتَطْلُبُ مَا يُطْغِيكَ.

  الكفاية: هي مساواة المنفعة لقدر الحاجة، وأصل الكف الدفع، فكأن الكافي يدفع مضرَّة الحاجة. والطلبُ: هو البحث عن الشيء بتعب وعناية، إذ الإنسان لا يطلب الممكنَ الموجودَ الذي لا مشقَّة في تناوله، ألا ترى أنه لا يقول إذا تناول شيئاً من بين يديه: طلبتُه، ولا يعرف ذلك في كلامهم. والطغيان: مجاوزة الحد، قال تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ ١١}⁣[الحاقة] الجارية: السفينة، وسُميتْ جاريةً لجريانها على الماء، وسُمِّي الماء في تلك الحالة طاغياً لأنه تجاوز الأمور المعتادة، وقد اختلف أهل العلم في مقدار تجاوزه، فقال بعضهم: زاد على أرفع مكان خمسة عشر ذراعاً، وروي عن بعض آبائنا $ أنها كادت تناطح الكواكب، وهو الأصحُّ عندنا؛ لأنَّ الأخبار والآثار تؤيد هذا القول، وهذا منتهى الطغيان، وغايةُ النكال لأهل العصيان.

  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أنَّ ابن آدم في الكفاية إنْ قَنِع وشبع وأبصر بعين الفكرة وسمع بأُذن النَّصَفَة، والقليل أرْوَحُ مِنْ هَمِّ الحفظ، وأخفُّ مؤنة وأقل تبِعَة، ولِمَ لَا وفيه سَدُّ الفاقة، وبه بلاغ الآخرة، سيما والعبد في سَيْر مُجِدٍّ إلى هول عظيم، وبين يديه قائدٌ خفيف، وخلفه سائقٌ عنيف، ولا يدري كيف يكون مصرعه، وأين يقع مضجعه، فأيُّ وجهٍ لاتخاذه الألوان، وتأنُّقِهِ في المشارب والأدهان، وكأنَّه بما هو كائنٌ قد بان، وبما يكون قد كان، فاعجبْ من العامر ما لا يسكن، والجامع ما لا يأكل، وإنما أيام العبد ثلاثة: فيومٌ مُنْتَظَرٌ هو على غير يقين من حصوله، ويومٌ فائتٌ قد مضى لحال سبيله، فليس معه على الحقيقة إلَّا يومه الذي هو فيه، فأقلُّ الأشياء فيه يكفيه، وفوق الكفاية يطغيه.

  وقد روينا عن النبي ÷ أنَّه قال: «مَنْ أَصْبَحَ آمِناً فِي سِرْبِهِ، مُعافى في بَدَنِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا» الأمانُ نقيض الخوف، والسَّرْبُ بفتح السين النَّفْسُ، والسِّرْبُ بكسر السين الوجه. والقوتُ: ما يقتاته الإنسان بمعنى يستمتع به. وكأنَّما: معناها التشبيه، وحيزت له: جُمِعَتْ له، وحذافيرها: سُقَاطاتُها⁣(⁣١) وأطرافُها، وهو #


(١) السُّقاطاتُ مِنَ الأَشْياء: مَا يُتَهاون بِهِ مِنْ رُذالةِ الطَّعَامِ وَالثِّيَابِ وَنَحْوِهَا. (لسان العرب ٧/ ٣١٧).