حديقة الحكمة النبوية في تفسير الأربعين السيلقية،

عبدالله بن حمزة (المنصور بالله) (المتوفى: 614 هـ)

[قصة ثعلبة بن حاطب]

صفحة 212 - الجزء 1

  قوله #: قَالَ أَحَدُهُمَا: يَا رَبِّ خُذْ لِي بِمَظْلِمَتِي مِنْ أَخِي.

  دلَّ على أن أحدهما ظالمٌ والآخر مظلومٌ، لتقرير الله سبحانه لمدَّعي الظُّلامة على دَعواه، وحُكْمِه له على صاحبه، وهو سبحانه لا يقضي إلا بالحق. وقوله: يَا رَبِّ؛ استغاثةٌ ونداء. وقوله: خُذْ لِي بمعنى استنصف لي أو أنصفني. والأخذُ نقيض الإعطاء. والْمَظْلِمَةُ واحدةُ المظالم، وأضافها إلى نفسه - أعني الْمَظْلِمة - لأنها وقعتْ به، كما يقول الجريح: آلَمَتْنِي جراحي، ويقولون للمصاب: أَرِنَا صائبتك. وقوله: مِنْ أَخِي؛ تَلَطُّفٌ في الخصومة واستدعاء النَّصَفَة، ويحتمل أنْ يكون أخاً في الولادة، ويحتمل أنْ يكون أخاً في الدين، وأحسبُ أنَّ الأخ أُخذ من الأَخِيَّةِ⁣(⁣١) التي تجمع بين الاثنين من الحيوان وأكثر، فلما كانت الولادة تجمع وكذلك الدين؛ قيل: أخٌ لمن شارك غيره في أمرٍ من الأمور كالرضاعة والطباع أو السيرة، قال الفرزدق في الذئب:

  وَأَنْتَ امْرُؤٌ يا ذِئْبُ وَالغَدْرُ كُنْتُمَا ... أُخَيَّيْ صَفاً أُرْضِعْتُمَا بِلِبان

  فآخى بينه لاشتباه الحال فيهما، والفرزدق من أهل اللسان.

  قوله #: قَالَ اللهُ تَعَالَى: اعْطِ أَخَاكَ مَظْلِمَتَهُ.

  معناه سَلِّمْ إليه أرشها، واعطه عِوَضَها، إذ المظلمة نفسها يستحيل تسليمها، وقد صرح في آخر الحديث بأنها ليست من ذوات الأعيان الباقية في تلك الحال بقوله: مَا بَقِيَ مِنْ حَسَنَاتِي شَيْءٌ، وأقرَّ الحُكْمَ العدلُ سبحانه على ذلك، فلو كانت باقيةً لكان يحكم عليه بتسليمها، ولم يكن لذكر الحسنات وجهٌ، ومعنى ذكر الحسنات هاهنا هي الأمور المستحسنات، سُمِّيتْ حسنات لأنَّ القلوبَ تستحسنها وتحبها وتستحليها، إذْ عِلْمُ الإنسان بحسناته ومقدارها وتفصيل أجزائها وما بقي منها مستحيلٌ مع بقاء التكليف، وقد أمر سبحانه بأنْ نقول: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً}⁣[البقرة: ٢٠١] فذكر أكثرُ أهل العلم - وهو الذي نختاره - أنَّ الحسنة في الدنيا هي الزوجة الصالحة، وذكر بعض آبائنا $ ما يؤيِّد ما اخترناه، وهو أنه لما نزل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ٣٤ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ


(١) أَخِيَّةُ الدَّابَّةِ: عُودٌ تُشَدُّ بِهِ، وجمعها الأَوَاخِي، ويقال أنَّ الأخوة مشتقة منها، تمت ضياء، هامش (أ).