[تفسير قول الله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة} ... الآية]
  ويحتمل أن تكون الجنَّة جنَّة الخلد لقرب ورودها ودخولها عند الله تعالى لأزليته التي لا تتناهى، وبقائه الذي لا ينحدُّ، فهو لذلك يستقرب كلّ بعيدٍ مما في علمه إتيانُه، ولهذا قال تعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ٦ وَنَرَاهُ قَرِيبًا ٧}[المعارج] فلذلك عقَّب العفو بدخول الجنَّة وإن كان متراخياً، ويكون ذلك توسُّعاً ومجازاً، وذلك غيرُ ممتنع في اللسان، وأبلغُ منه قد وُجد في القرآن وهو قوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ٤٤}[الأعراف] جعل أصحاب الجنة لإقامتهم فيها ونزولهم إياها كما يقول: صاحب الدار، وكذلك الكلام في معنى أصحاب النار أن موضعه نصبٌ بفُقْدان الخافض، و {وَجَدْنَا}: من وِجْدان الضالة أي لقينا ووافينا، والوعد: هو الإخبار بوصول أمر في المستقبل، وقد يختص بالخير في العرف والوعيد بالشر، وقد يستعملان بمعنى واحد لتقاربهما. و (نعم): تكون للتصديق ولإجابة السائل في مناقضة (لا)، وتكون للازدياد من المتكلم، وجَعَلها في مقابلة: {هَلْ وَجَدْتُمْ}. و {حَقًّا}: بالتنوين مصدر حَقَّ يَحِقُّ، فهو في معنى التأكيد لوجدان الموعود. والمؤذن: هو الصائح برفيع صوته {أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ} أي ناره وإبعاده {عَلَى الظَّالِمِينَ ٤٤} أي واقع على الظالمين، والظالمون هاهنا هم الطالبون ما ليس لهم، المتعدُّون حدود ربهم، فلما أذَّن المؤذن ازدادوا يأساً إلى يأسهم(١)، وقنوطاً إلى قنوطهم. {فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ٦٨}[المائدة] فقد رأيت كيف أتى الحكيم سبحانه بلفظ الماضي لَمَّا كان الكائن عنده كأنه قد كان، فلما كان المظلوم المقدم ذكره بعفوه عن أخيه، وتجرد أخيه عند ذلك من الذنوب والتبعات؛ صار كأنه قد دخل الجنة وفاز بالخيرات، جاز لذلك تعقيب العفو بالدخول؛ لأنه في حكم الحاصل عقيبه عنده تعالى، فيكون أكثر ما في ذلك أن يكون مجازاً، وجائز من الحكيم سبحانه أن يخاطِبَ به. وإنكار الحشوية لجواز ذلك غير قادح فيه؛ إذ قد قامت الدلالة على جوازه لأنه خاطب بلسان العرب، وذلك شائع(٢) فيه، لا ينكره من له أدنى مسكة من معرفة كلامهم، ولأنه قد وُجد في
(١) اليَأْسُ واليآسَةُ: القُنُوطُ، ضِدُّ الرَّجاءِ، أو قَطْعُ الأَمَلِ، يَئِسَ يَيْأَسُ، كيَمْنَعُ، ويضْرِبُ شاذٌّ، (القاموس ٥٨٢)
(٢) في الأصل: سَاِئغٌ.