حديقة الحكمة النبوية في تفسير الأربعين السيلقية،

عبدالله بن حمزة (المنصور بالله) (المتوفى: 614 هـ)

[في وصف يوم الهول الأكبر]

صفحة 233 - الجزء 1

  والهاء في (أماتوا منها) عائدة إلى الدنيا، والعلم والمعرفة معناهما واحد، وقد بيَّنا فيما تقدم مما أخذ، وهو نقيض الجهل والغباوة.

  قوله: (أَنْ سَيَتْرُكُهُمْ) عائد إلى الضمير في متروكهم الذي تركوه؛ لأنه لا بد أن يترك مَنْ طلبه، وإنْ ظاهَرَ فيه تَعَبَه، وضاعف نَصَبَه.

  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أنَّ أولياء الله الذين تقدم ذكرهم أماتوا الدنيا فلم يعمروا منها خراباً، ولم يَنْصِبوا فيها قِباباً، قطعوها ركضاً ونصّاً⁣(⁣١)، وحَصُّوا مرافقها من أكفهم حصّاً⁣(⁣٢)، فلم يَعْلَقوا⁣(⁣٣) بشيء من أسبابها؛ لعلمهم أنها تميت من أخلد إليها، وارتكن عليها، كم من خَدِينٍ لها قد صرعته لليدين والفم، ومفتون بحلاوتها قد جرَّعته كأس العلقم، ومتخذٍ لها أُمًّا غادرته أمِيماً⁣(⁣٤)، ومُكَلِّمٍ لها حبّاً فارقته كليماً، فلم تعرف للمأموم حُرْمةَ الأمومَة، ولم تداوِ للمَكْلوم كُلُومَه.

  فلما نظر أولياء الله تعالى إلى ذلك في غيرهم اعتبروا به منها، واكتفوا به فيها، فلم يُحيوا فيها مَواتاً، ولم يجمعوا لها شتاتاً، وبدأوا فيها بما خشوا منها، فعملوا بالوثيقة، وجزموا على الحقيقة، وسلكوا أوسط طريقة، وعلموا أنها تترك صاحبها أحوج ما يكون إليها فتركوها زهداً فيها، ورغبةً عنها؛ أنفةً على شرفهم؛ وحميةً على أنفسهم أن يُحيوا مُمِيتَهم؛ ويحفظوا تاركهم؛ وهل رأيت أجْهلَ من رجل يُرَبِّي قاتلَه مع علمه أنّه قاتلُه؟! ويُقْبِل على من يعلم من حاله الإعراض عنه والاستخفاف به، وقلة المواساة عند الشدائد، والمدافعة عند نزول الأوابد؟! لا يغتر بما هذه حاله إلا مغرور، ولا يُقبِل عليه إلا مثبور.


(١) النَّصُّ والنَّصِيصُ: السَّيْرُ الشَّدِيدُ والحثُّ، وَلِهَذَا قِيلَ: نَصَصْتُ الشَّيْءَ رَفَعْتُهُ، وَمِنْهُ مِنَصَّة الْعَرُوسِ. وأَصل النَّصّ أَقصى الشَّيْءِ وغايتُه، ثُمَّ سُمِّيَ بِهِ ضربٌ مِنَ السَّيْرِ سَرِيعٌ. (لسان العرب ٧/ ٩٨).

(٢) الحَصُّ: إِذهابُ الشَّعَرِ عَنِ الرَّأْس بِحَلْقٍ أَو مَرَضٍ. (لسان العرب ٧/ ١٣) والْمَرافِقُ: هي التَّوابِعُ، كما يقال: مَرافِقُ الدَّارِ، ا. هـ.

(٣) كذا في الأصل، وفي نسخة أخرى: يعتلقوا، وفي أخرى: يتعلقوا.

(٤) الْأَمِيمُ: الْمَشْجُوجُ فِي أُمِّ رَأْسِهِ، هامش الأصل.