[حب الرفعة وخطره على النفس]
  لأنهم خافوا أن يُعْشِي زخرُفُهُ أبصارَهم فلا يهتدون سبيلاً، وتَنْفَقِر لِثِقَل أوزاره ظهورهم، فلا يستطيعون تحويلاً، هذا مع أن المرتقى كؤود، والسفر بعيد، وظاهر نائل الدنيا سرور، وباطنه غرور، رِفعتها تخادع ذوي الإربة عن نفوسهم وعقولهم، فربما أعطوها القياد، فطوَّحت بهم في البلاد، وأهلكتهم في المعاد، وقَلَّ من يسلم من خادع رفعتها وإن نجا من عارض نائلها إلَّا مَنْ رُزق التحقيق، ومُنِح التوفيق، فاهتدى لمعرفة غامض عيوبها، وسرعة انتقالها، وَوَشْكِ زوالها، وأن عزَّها ذُلٌّ، وكُثْرَها قُلٌّ(١)، وحدَّها فَلٌّ(٢)، ظلها زائل، وكوكب سُعْدِها آفل، ومن لك بمن هذه حاله؟ ذلك أمير المؤمنين سلام الله عليه الذي كَفَأَها لوجهها، وأعرض عن زينتها، فلم يُرْعِها طرفاً، ولم يبسط إليها كفّاً، ألم تسمع إلى ما يُرْوى عنه # فيها من قوله:
  دُنْيَا تُخَادِعُنِي كأنْ ... نِي لَسْتُ أعْرِفُ حَالَها
  حَظَرَ الْإِلَهُ حَرامَها ... وَأنا اجْتَنَبْتُ حَلَالَها
  بَسَطَتْ إليَّ يَمِينَها ... فَرَدَدْتُها وَشِمالَها
  ورَأَيتُها مُحْتاجَةً ... فَوَهَبْتُ جُمْلَتَها لَها
  فمن عرف معاني هذه الأبيات، فقد عرف جملة كافية، وموعظة وافية.
[حب الرفعة وخطره على النفس]
  فأما حب الرفعة فقد هلك فيه كثير، وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، ألم تسمع إلى قول بعض الأنصار في معنى الافتتان برفعة الدنيا والحب لشرفها، وذلك لما قتل سعد بن عبادة(٣) بسهمين رُمِي بهما في
(١) القُلُّ بِالضَّمِّ: القِلَّة، كالذُّلِّ والذِلَّة، (النهاية في غريب الحديث والأثر ٤/ ١٠٤).
(٢) الفَلُّ: الثَّلْم فِي السَّيْفِ، أو فِي أَيّ شَيْءٍ كَانَ، فَلَّه يَفُلُّه فَلًّا، ج فُلُولٌ، (انظر لسان العرب ١١/ ٥٣٠).
(٣) سَعْدُ بنُ عُبادَةَ بنِ دُلَيْمٍ الْخَزْرَجِي، سَيِّدُ الْخَزْرَج، صاحبُ رايةِ الأنصارِ في المشاهد كُلِّها، شَهِدَ بدراً، وقيل لا، وهو من نقباء الأنصار ليلة العقبة، وكان كثير الصدقات والجود، وتخلَّف عن بيعة أبي بكر، وعن بيعة عمر؛ وروى الجوهري عن علي بن سليمان النوفلي، قال: سمعت أُبَيّاً يقول: ذَكَرَ سعدُ بن عبادة يوماً علياً بعد يوم السقيفة، فذكر أمراً من أمره يوجب ولايته، فقال له ابنه قيس بن سعد: أنتَ سمعت رسول الله ÷ يقول هذا الكلام في علي بن أبي طالب، ثم تطلب الخلافة، ويقول أصحابك: منَّا أمير ومنكم أمير؟ لا كلّمتُك والله من رأسي بعد هذا كلمة أبداً.
=