[حب الرفعة وخطره على النفس]
  وأبخس متجرها، وأقبح مخبرها.
  وأعلم أيدك الله أنَّ الفكر في المآل هو رأس الحكمة وقائد العصمة، وكانت العرب تمدح مَنْ فَعل في أعمال الدنيا(١)، وقد علمْتَ هُون مضارها، قال قائلهم:
  وَلِذَاكَ كانُوا لَا يَحُشُّونَ الْوَغَى ... إلَّا وَقَدْ عَرَفُوا طَرِيقَ الْمَهْرَب
  يريد أنهم قد(٢) عرفوا وجه المهرب قبل إيقاد نار الحرب الذي هو حَشُّها(٣)؛ لأن صاحبها يفتقر إلى النظر في مجالها، ومآلها قبل وصالها وقتالها، فمن نظر موضع قدمه قبل الإقدام فقد استبصر، وعمل بالوثيقة لنفسه، واستبرأ من الدَّنِية لدينه، ولم يُؤْتَ من غِرَّة، ولم يُقَصِّر في وِرْدٍ ولا صَدَرٍ(٤)، ومن تقحم على غير بصيرة فقد رمى بنفسه في المعاطب، وأوردها شر العواقب، وكان في أمر نفسه قد أُتِيَ من قِبل نفسه فقلَّ راحمه، وفُقِد عاصمه.
  قوله #: خَلِقَتِ الدُّنْيَا عِنْدَهُمْ فَمَا يُجَدِّدُونَهَا، وَخَرِبَتْ بَيْنَهُمْ فَمَا يَعْمُرُونَهَا.
  الإخلاق والإنهاج والإسحاق والإسمال معناها واحد، وهو أن ينال البِلى من الثوب فلا يبقى فيه طائلُ نَفْعٍ، وتجديده تبطينه بغيره مما يَشُدُّه، يقول قائلهم: جدَّدْت الثوب إذا فعل به ذلك، أُخذ من الجِدَّةِ، وهي نقيض البلى. قال ابن خذَّاق(٥):
  ورَجَّلوني(٦) وما رُجِّلْتُ من شَعَثٍ ... وألْبَسوني ثِيَاباً غيرَ أخْلاق
(١) هكذا العبارة في جميع النسخ.
(٢) لفظة (ٌقد) زيادة في الأصل وفي نسخة.
(٣) حَشَّ الحَربَ إِذَا أسْعرَها وهيَّجها، تَشْبِيها بإسْعار النَّارِ. وَمِنْهُ يُقَالُ لِلرَّجُلِ الشُّجاع: نعْم مِحَشُّ الكَتِيبة، تمت، (النهاية في غريب الحديث والأثر: ١/ ٣٨٩).
(٤) الصَّدَرُ: نقِيض الوِرْد، صَدَرَ عَنْهُ يَصْدُرُ، ويَصْدِرُ، صَدْراً ومَصْدراً، (لسان العرب ٤/ ٤٤٨).
(٥) يزيد بن خذاق الشِّنِّي العبديّ، من بني عبد القيس: شاعر جاهلي، وله أخ يسمى سويد بن خذاق، وهما شاعران، قال الزركلي: وربما ينسب لأحدهما ما هو للآخر. والبيت ورد في كتاب المفضليات ضمن أبيات نسبها للممزق العبدي، وهو خطأ، فقد نسبها الكثير لابن خذاق وأنه أول شعر قيل في ذم الدنيا، وندب نفسه فيها، وشرح ما سيصنع أهله به بعد موته، (المفضليات: ٣٠٠) (وانظر جمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري: ٢/ ٣٥٩).
(٦) التَّرْجِيلُ: تَسريحُ الشَّعَر وتَنْظيفُه وتَحْسينُه، (النهاية: ٢/ ٢٠٣) والشَّعَثُ: تفرق شعر الرأس وانتشاره.