[حب الرفعة وخطره على النفس]
  الفاني، وهو ثواب الآخرة فإنه لا يزول.
  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أنَّ أولياء الله تعالى أماتوا ذِكْرَ الدنيا في ألسنتهم، وفِكْرَها في صدورهم، وهَمَّها من قلوبهم، فلم يحيوها بذكر، ولم ينشروها بفكر، بل صارت عندهم بمنزلة الميت الذي لا يذكر، والفاني الذي لا ينشر؛ لمعرفتهم بحقيقتها الغرَّارة، وطريقتها الغدَّارة، فهدموا بنيانها، وقوضوا(١) أركانها، وقدموا نِقْضَها(٢) بين أيديهم، فعمروا به منازل الإقامة في دار الْمُقامة، وبيوت الكرامة، في مقعد السلامة، فقَدِموا إلى منازلَ عامرة، ومراتبَ فاخرة، وفارقوا الدنيا خرابا يباباً، فلم يحبوا إليها انقلاباً ولا مآباً، وباعوا متاعها الفاني اليسير، واشتروا به الباقي الخطير، من جنة وحرير، وقصر وسرير، وحوراء كالبدر المنير، وهيفاء(٣) كالظبي الغرير، وكثبان المسك الأذفر، ومكنون العنبر، ونضرة وسروراً، ومُلْكاً كبيراً، فأيُّ شراء أربح من هذا؟ هذا بيع لا يقيله العالمون، وكيف وأهله الغانمون، بقي لهم مشتراهم، وهلكت أثمانه، ودثر الذي خربوه ودُمرت أوطانه، وارتفع بيتهم الذي عمروه وكُرِّمت جيرانه، وتواترت إليهم الهدايا بجزيل العطايا، ووردت بشارة الخلود، ونُزِعَتْ من صدورهم ضِباب(٤) الحقود، فهم في قباب الْمُلْك خالدون، وفي جنات الخلد ناعمون، لا يمسهم فيها نصب، وما هم منها بمخرجين.
  قوله #: وَنَظَرُوا إلى أَهْلِهَا صَرْعَى قد حَلَّتْ بِهِمُ الْمَثُلَاتُ، فَمَا يَرَونَ أَمَاناً دُونَ مَا يَرْجُونَ، وَلَا خَوفاً دُونَ مَا يَحْذَرُونَ.
  النظر هاهنا هو نظر العين، وهو تقليب الحدقة السليمة نحو المرئي التماساً لرؤيته. والهاء في أهلها عائدة إلى الدنيا. وأهلها على الحقيقة هم الذين قاموا بها حق القيام، وجعلوها دار الْمُقام. صرعى: جمع صريع، وأكثر ما يستعمل ذلك في القتيل، والصرعى هاهنا هم الذين قتلتهم الزلازل، وطحنتهم النوازل. وحلت: من الحلول، وهو الوقوع. والمثلات: جمع مُثْلَة، والرؤية: هو إدراك المرئي بآلة الرؤية وهي العين السليمة. والأمان: نقيض الخوف، والرجاء: نقيض
(١) أي نَقَضُوا أرْكَانَها مِنْ غَيْرِ هَدْمٍ، قال في القاموس: قَوَّضَ الْبِنَاءَ تَقْوِيضًا نَقَضَهُ مِنْ غَيْرِ هَدْمٍ. ا. هـ.
(٢) النِّقْضُ: اسمُ البِناء المَنْقُوضِ إِذا هُدم. (لسان العرب ٧/ ٢٤٢).
(٣) هيفاء: ضَامرة الخَصْرِ، هامش الأصل، (انظر لسان العرب ٩/ ٣٥٢).
(٤) ضِبابُ جمع ضَبٍّ: وهو الْغَضَبُ والْحِقْدُ، وقد مرَّ في حاشية سابقة (انظر النهاية ٣/ ٧٠).