حديقة الحكمة النبوية في تفسير الأربعين السيلقية،

عبدالله بن حمزة (المنصور بالله) (المتوفى: 614 هـ)

[حب الرفعة وخطره على النفس]

صفحة 241 - الجزء 1

  وفي الحديث: أن ذا القرنين الملك السيار | مرَّ بمدينة عظيمة قد مَلِكَها تسعةُ ملوك وماتوا عنها، فأعجبته فسأل: هل بقي من نسلهم أحد؟ فقيل: ليس إلا غلام قد لزم المقابر، وانفرد من الناس، فأمر من جاء به، فجيء به، فسلم عليه، فقال: ما دلك على لزوم المقابر؟ قال: أردت أن أميز بين عظام ملوكهم وعبيدهم، فإذا هم سواء. قال: فهل لك همة؟ قال: إن همتي لعظيمة، قال: فإني أرد عليك مُلك آبائك وأُوَلِّيكَ في هذه المدينة، قال: إني أريد ملكاً لا يزول، فهل عندك؟ قال: لا؛ ذلك لا يقدر عليه إلا الله. قال: فإني أطلبه ممن يقدر عليه، وهو الله. ثم خلَّاه وانطلق، فقال ذو القرنين لخاصته: ما رأيت أحكم من هذا.

  والْمَثُلات: جمع مُثْلَة، والمثلة هي الوقعة الشنيعة، والبطشة الرائعة الفظيعة، ومنه الحديث رواه بعض أصحابه، قال: ما قام فينا رسول الله ÷ مقاماً إلا أمرنا بالصدقة ونهانا عن الْمُثْلة.

  فلا يرون أماناً دون الثواب في الجنة، وهو الذي كانوا يرجونه في دار الدنيا، إذ الأمان دونه غير دائم، والسرور غير ملازم، ولا خوفاً دون ما يحذرون من عذاب الله تعالى، إذْ كلُّ خوف دون العقاب يسير، وكل هول حقير، فلما نظروا بأبصار البصائر، رأوا الأمنَ دون المرجو خوفاً؛ لأنهم لا يأمنون مفاجأة دائم الضرر الذي هو العقاب عنده، والخوفَ⁣(⁣١) دون المحذور الذي هو العقاب أمْناً؛ بزوال شره وسرعة انقطاعه، مع أن مرجوّهم الذي رجوه أهون المرجوَّيْنِ عند أهل الدنيا، ومخوفهم الذي خافوه أصغر المخوفَين عند عبيد الأهواء، فأعقبهم أمانُهم في الدنيا خوفاً في الآخرة لا تنقضي روعته، وسرورُهم فيها حزناً لا تنفد لوعته، وتبدَّل أولياءُ الله الخائفون له الراجون لما عنده أمناً لا خوف معه، وسروراً لا حزن فيه، فمن سلك منهاجهم فاز، ومن اغتر أُنزل دار المغترين، وتجرع كأس الندامة مع الْمُسَوِّفين.


(١) معطوف على (الأمنَ) في الجملة: رأوا الأمنَ دون المرجو خوفاً.