حديقة الحكمة النبوية في تفسير الأربعين السيلقية،

عبدالله بن حمزة (المنصور بالله) (المتوفى: 614 هـ)

الحديث العشرون

صفحة 243 - الجزء 1

  فإن قيل: فقد قال راجزهم:

  إنّا وَجَدْنا خَلَفاً بِئْسَ الخَلَفْ ... [............................... (⁣١)]

  أَغْلَقَ عَنّا بابَهُ ثُمَّ حَلَفْ ... لَا يُدْخِلُ الْبَوّابُ إلَّا مَنْ عَرَفْ

  قلنا: هذا شاذ لا يُلتفت إليه، ولا يُعَوَّل عليه؛ إذ لا يعلم أن أحداً من أهل اللسان اعتمده. والماضين: هم السابقون الأولون، وأصل الْمِضاء القطع، يقال: مِضاء السيف: أي قَطْعُه، ومنه سُميت السيوف مواضي، وسُمي الماضي من السلف ماضياً لأنه كالمقطوع من الباقي. والبقية: هي فُضالة الشيء وحُثالته، وهو مأخوذ من البقاء، وقد تقع البقية للاستبقاء والادخار، قال الله تعالى: {بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ}⁣[هود: ٨٦] معناه والله أعلم: استبقاؤكم اللهَ تعالى ذخيرةً وجعْلُكم له فَيْئةً خيرٌ لكم من قطع ما بينكم وبينه بالمعاصي الكبيرة. والمتقدمون: أُخذوا من التقدم إذْ هم في الحكم خلْفَنا، ونحن بين أيديهم، وقد يحتمل التقدم من القدّام على معنى أنهم تقدَّموا إلى ربنا، ونحن خلفهم لاحقون.

  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أن النبي ÷ أراد تنبيهنا؛ إذ الأكثر من الناس لا يفكر في ماضٍ قبله فيتَّعظ به، ولا في باقٍ بعده، فيعلم أنَّ الفائز بتركته ربما سعد بما شقي به، أو تلذذ به في دنياه، وكانت على الْمُخلِّف تبعتُه، هذا وهو لا يخرج من الدنيا إلا بكفنه؛ إن كانت مِيتَتُهُ على تُؤَدَةٍ وأناةٍ بين أهله وأحبته، فأكثر كرامته كفنه مع نزعهم خاتمه من خنصره، ونعله من رجله، ويَسُلُّونَه في حفرته، فيُسْلِمونه إلى عمله؛ فإن كان صالحاً استراح من تعبه، وإن كان طالحاً أُتِيَ من سببه، وقد رأينا ذلك عياناً فلم نحتج له برهاناً، وقد تقرَّر في عقل كل عاقلٍ متأملٍ أنا نخرج من الدنيا مُكْرَهين، كما خرج الماضي منها مكرهاً؛ إلا أن نخرب الدنيا، ونعمر الآخرة، فإنا نحاسَب حساباً يسيراً، ونزداد بفراقها سروراً؛ لأن العاقل يحب الانتقال من الخراب إلى العُمران.

  فأما من كانت وفاته في ميدان العَجاج وسوق الهِياج⁣(⁣٢)، ونَفَاق الأسِنَّة، وكساد الزِّجاج⁣(⁣٣)، أو ببغي بعض البغاة في أفواه الفِجاج، فإنه يُعوَّض بالأكفان أجنحة الغربان مع تمزيق السباع


(١) الشطر الثاني: (عَبْداً إذا ما ناءَ بالحِمْلِ خَضَفْ) ومعنى خضف: ضرط.

(٢) العَجاجُ، كسَحابٍ: الغُبارُ، والدُّخانُ، ورَعاعُ الناسِ، والْأَحْمَقُ. (القاموس: ١٩٧)، والهياج: القتال.

(٣) الزِّجاجُ: جمع زُجّ، وهي الحديدة أسفل الرمح، (انظر القاموس المحيط: ١٩١).