حديقة الحكمة النبوية في تفسير الأربعين السيلقية،

عبدالله بن حمزة (المنصور بالله) (المتوفى: 614 هـ)

الحديث العشرون

صفحة 247 - الجزء 1

  إلى أن قال:

  عَرْشُها شَرْجَعٌ ثمانون باعاً ... كَلَّلَتْهُ بِجَوْهرٍ وفَرِيد

  فأما مدائن الجوف وأبنيته فقد شاهدناها عياناً، وقتلناها عرفاناً، وقد حارت فيها أفكارنا، فمنها ما يقطع العاقل اللبيب على أنه خارج عن صنعة البشر ومقدورهم؛ لما فيه من الآثار الرائعة الهائلة من الأساطين⁣(⁣١) المثمنة، والعمد المكونة، والصور الممثلة، والأركان المكلَّلة، وهي سبع مدائن على شاطئ نهر الجوف الأعظم، المسافة بينها متساوية، كأنما قيست بالمقوس، وقد ذكرها علقمة في شعره حيث قال:

  وبَراقِشُ الْمُلْكُ الرَّفِيعُ عِمادُهَا ... هَجَرَ الْمُلُوكُ كَأَنَّها لَمْ تُهْجَرِ

  ومَعِينُ فَرَّقَ بَيْنَ سَاكِنِ جَمْعِها ... أَرْضُ الْأَعِنَّةِ والْجِيَادِ الضُّمَّر

  وأما مَجْدَل نمرود فقيل إنه كان بكوثاء من أرض بابل، والذي بناه نمرود بن كوش بن كنعان بن حام بن نوح، وهو أول ملك فيما روي عمَّ مُلْكُه الدنيا، وكان أمراً هائلاً، قيل كان ارتفاعه في الهواء خمسة آلاف ذراع وطوله في الأرض ألف وخمسمائة ذراع، وكان نمرود هذا معاصراً لإبراهيم #، وهو الذي حاجَّ إبراهيم في ربه، فلما غير الله تعالى ما به، وفارقه إبراهيم # مهاجراً إلى ربه أتى الله تعالى بنيانهم هذا العظيم من القواعد في يوم غيم ومطر ذي برد ورياح، جمعهم بذلك من كل ناحية تدبيرُ الله تعالى إلى ملجئهم هذا الذي اتخذوه من دونه سبحانه عتاداً⁣(⁣٢)، فخرَّ عليهم السقف من فوقهم، وفائدة ذكر خرير السقف من فوقهم التأكيد لكونهم تحته، إذ قد يسقط بنيان القوم فلا يكونون تحته، فيقال: انهدم عليهم بنيانهم، ولا يقال من فوقهم حتى يكونوا تحته، فتأمل ذلك.

  وأما تدمر فهي بناحية الشام وهي مما عمرت الجن لسليمان بن داود @، وقد ذكرت العرب ذلك في أشعارها، قال النابغة⁣(⁣٣):


(١) الأساطين: جمع أسطوانة، وهي أعمدة البناء.

(٢) الْعَتَادُ: الشَّيْءُ الَّذِي تُعِدُّه لأَمْرٍ مَا وتُهَيِّئُه لَهُ ..

(٣) شطر البيت الأول زيادة من معلقته التي منها هذه الأبيات، ومطلعها:

يا دارَ مَيَّةَ بالعَلْياءِ فالسَّنَدِ ... أَقْوَتْ وطالَ عَلَيْها سالِفُ الأَبَدِ