الحديث العشرون
  فيها عبيداً، هذا وإن كانوا عبيداً له في الدنيا والآخرة فإنما خص الآخرة لأنَّ منهم من خرج في الدنيا تمرداً من حال العبودية وادَّعى الربوبية، وذلك اليوم يومٌ يُطْبِقُ الجميع فيه على الاعتراف فيه بالملكة، وقد أحصاهم سبحانه عدداً فلم يغادر منهم أحداً، بل أحصى أجزاءهم وأنفاسهم وأوقاتهم، {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ٩٥} يأتونه يوم القيامة عند دعاء الداعي لهم، وهو إسرافيل #، وهو يدعوهم بالصور ينفخ فيه نفخاً مفظعاً، يقول فيه: أيتها الشعور المتفرقة، والأجسام المتمزقة، والعظام النخرة قوموا إلى محاسبة الديان، والعرض على الكبير الأكبر، فيخرجون من الأجداث سراعاً، ولا يستطيعون امتناعاً، ويأتونه فرادى لا يلوي منهم أحد على أحد، ولا يلتفت والد إلى ولد، وكذلك لا تقبل الفدية ذلك اليوم، ولا تنفع المعذرة؛ لأن التكليف مرتفع والأملاك زائلة، والحال غير الحال، فالفدية مردودة، والأموال مفقودة، وإن وجدت فهي غير معدودة، فأين العشيرة الدافعة، والفدية النافعة، وهم يأتون على هذه الصفة الرائعة عند وقوع الواقعة وارتفاع الهائعة.
  قوله #: فَأرْحِلُوا نُفُوسَكُمْ بِزَادٍ مُبَلِّغٍ، قَبْلَ أَنْ تُؤْخَذُوا عَلَى فُجَاءةٍ، وَقَدْ غَفَلْتُمْ عَن الاسْتِعْدَادِ.
  أرحل نفسه: نقيض أحلَّها. والزاد: هو ما يستصحبه الراحل مما لا غنى له عنه. وقبلُ نقيض بعد. والأخذ: نقيض الترك. والفجأة: الغفلة، ومنه قولهم في قطري بن الفُجَاءَة؛ لأن أباه جاء به من اليمن فجأة، وقد صار رجلاً، ولا علم لهم بأن له في اليمن ولداً، فسموه الفجاءة لذلك. والغفلة: نقيض اليقظة. والاستعداد: جمع الآلة والعدة.
  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أنه # أمر بإرحال النفوس بالزاد المبلغ، ولا زاد يبلغ صاحبه إلا التقوى، وأصل التقوى اطِّراح الأهواء، والتمسك بالسبب الأقوى. فالرحيل حتم لا بد منه لمن أراد ذلك أو كرهه، والزاد موقوف على اختيار الراحل؛ فإن شاء تزوَّد وإن شاء ترك، والمتزود ناج سالم، والتارك هالك نادم، ومن اختار الهلاك والندامة على النجاة والسلامة فقد اختار غير الخيرة، ولم يأخذ لنفسه بالوثيقة قبل أن يؤخذوا على فَجْأة، لأن رحيلهم قد يقع بغير اختيارهم كما يقع رحيل الأسير على فجأة بغير مشاورة، ولا مؤامرة.