حديقة الحكمة النبوية في تفسير الأربعين السيلقية،

عبدالله بن حمزة (المنصور بالله) (المتوفى: 614 هـ)

الحديث الحادي والعشرون

صفحة 256 - الجزء 1

  عطف قيَّاراً على موضع الجملة في (فَإِنِّي) وهو الابتداء.

  والعابر هو: السائر، والأصل في العابر الباحث المتفقد للأمور، وهو اسم فاعل، ومنه أُخِذ الاعتبار، وصار الغالب عليه في العرف قطع جسور الأنهار، يقال: عبر فلان الجسر، وقد قَلَّ استعماله في غيره إلا بقرينة، كما قال #: عَابِرُ سَبِيلٍ، فلما كان القاطع للمفاوز والجسور كأنه يفتقدها ويتقصصها قيل عابر، وهو السائر، والعين غير معجمة، فإذا كانت معجمة كان الغابر الباقي الواقف، قال سبحانه: {إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ١٧١}⁣[الشعراء] يريد الباقين الواقفين، وقد يكون الغابر الداخل، يقال: غبر من الزمان يومٌ أو يومان بمعنى دخل، وهذا الحرف قد يكون من الأضداد، فيجعل للماضي والمستقبل كما قال الراجز⁣(⁣١):

  فَما وَنَى مُحَمَّدٌ وقَدْ غَفَرْ ... لَهُ الإلَهُ ما مَضَى وَما غَبَرْ

  يريد بقي.

  والسبيل الطريق، وسُميت سبيلاً لاستمرارها وكونها على سَننٍ مستقيم.

  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أنه ÷ أمر ابن عمر خاصة، والناس عامة أن يكون الإنسان في هذه الدنيا كأنه غريب، على معنى أنه لا يسكن إلى أهلٍ ولا مالٍ، بل يكون كالغريب الذي طوَّحت به طوائح الآمال إلى مسارح الأهوال، فهو مستوفزٌ⁣(⁣٢) غير مستقر، خائفٌ غير آمن.

  وقد روي عن بعض الصالحين أنه كان إذا جلس جلس مُجْرَمِّزاً⁣(⁣٣) مُجْتَمِعَ الأطراف، فيقال له: لم لا تطمئن في الأرض؟ فيقول: تلك جَلْسة الآمنين، وأنا غير آمن؛ هذا الغريب أحبُّ شيء إليه الرجوع إلى وطنه، والبروك في عَطَنِهِ⁣(⁣٤)، وهي دار الاستقامة للفائزين، فيها له مالٌ لا تجتاحه حوادث الأيام، وأهلٌ لا تنتابهم بوادر الحِمام، فأما من عَدَّ أنَّ له في الدنيا أهلاً ومالاً فكيف يسمح بفراق الأهل والمال، أو تتوق نفسه إلى الانتقال، هذا ما لم تجرِ به العادة على مرور الأيام والليال.


= من بني نهشل، فأعيد إلى السجن، وعرض السجناء يوما فإذا هو قد أعدّ سكينا في نعله يريد أن يغتال بها عثمان، فلم يزل في السجن إلى أن مات. ا. هـ. (انظر الأعلام للزركلي ٣/ ٢١٢).

(١) هو رؤبة بن العجاج، وقد تقدمت ترجمته خلال شرح الحديث الثاني.

(٢) اسْتَوْفَزَ في جِلْسَتِه: إِذا جَلَسَ جُلُوساً غَيْرَ مُطْمَئِنٍ، تمت ضياء، هامش (أ) (انظر لسان العرب ٥/ ٤٣٠).

(٣) أي مُنْقَبِضاً مُجْتَمِعاً بَعْضُهُ إلى بَعْضٍ، ذكره في القاموس، هامش (أ) (انظر لسان العرب ٥/ ٣١٨).

(٤) العَطَنُ، مُحَرَّكَةً: وَطَنُ الإِبِلِ، ومَبْرَكُها حَوْلَ الْحَوْضِ، ومَرْبَضُ الغَنَمِ حَوْلَ الماءِ. (القاموس: ١٢١٦).