حديقة الحكمة النبوية في تفسير الأربعين السيلقية،

عبدالله بن حمزة (المنصور بالله) (المتوفى: 614 هـ)

الحديث الحادي والعشرون

صفحة 257 - الجزء 1

  ثم أردف # التشبيه بتشبيه يقاربه، وهو قوله: أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ، فإنَّ عابر السبيل أحبُّ شيء إليه قطع المفازة والموماة⁣(⁣١)، ووصول الأهل ليفوز بالسلامة والنجاة، فما ظنُّك بمن جعل السبيل دار إقامة؟! مَنْ أعظم منه عند الإزعاج للمسير ندامة؟! وأبين منه خسارة وغرامة؟! فيا أيها الغريب شمِّرْ واستعد للوصول إلى أهلك ومالك، ويا أيها العابر السبيل؛ لا تحيَّرْ في المسالك فتُرْهِقك المهالك، وبادر إلى المراتب والممالك والنمارق والأرائك والعُرُبِ العواتك⁣(⁣٢)، فبين يديك كلُّ ذلك، ولَا تُخْلِدْ إلى أهلٍ هم أهلُك حتى تموت، ومالٍ هو مالُك حتى تفوت، فإذا كان ذلك أسلموك، وإلى عملك سلَّموك فندمت؛ وما يغنيك، وقد شغلوك بما لا يعنيك.

  قوله #: وَاعْدُدْ نَفْسَكَ فِي الْمَوْتَى.

  الْعَدُّ هو ترتيب جمل الحساب. والنفس هاهنا جملة الإنسان، وقد تقدم معناها مفصّلاً. والموتى جمع ميت، والميت نقيض الحي.

  المَعْنَى: أنه # أمر الإنسان أن يَعُدَّ نفسه في الموتى الذين قد انقطع عنهم التكليف، فسُئِلُوا عن الجرائم والجرائر، ونُوقِشوا على الصغائر والكبائر، وكُشِفَتْ لهم البواطن والظواهر، فما كان عليه لو أقبل - والحال هذه - لعمله فليعمله، فهو اليوم في موضع الإقالة، وأمنية أهل الجهالة، قال الله سبحانه حاكياً عن بعضهم أنه قال في هذه الحال: {رَبِّ ارْجِعُونِ ٩٩ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا}⁣[المؤمنون] فها نحن نجري في موضع أمنيته؛ فما نحن عاملون؟! إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، لقد طبعت الغفلة على القلوب، وكثرت أعوان سلطان الذنوب.

  قوله #: وَإِذَا أَصْبَحَتْ نَفْسُكَ فَلَا تُحَدِّثْهَا بِالْمَسَاءِ، وَإِذَا أَمْسَتْ فَلَا تُحَدِّثْهَا بِالصَّبَاحِ.

  الإصباح نقيض الإمساء، وهو مأخوذ من الصبح الذي هو الفجر، يقال: وضح الصبح لذي عينين، وقال تعالى: {فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ ١٧٧}⁣[الصافات] وقد تقدم معنى لفظ النفس هاهنا،


(١) المَوْماءُ والمَوْماةُ: الفَلاةُ، والجمع: المَوامِي. (القاموس المحيط: ١٣٣٦).

(٢) في الأصل: الْفَواتِك، وما أثبتناه من النسخة (أ) ونسخة أخرى.

والعُرُبُ: جَمْعُ عَرُوبٌ، وَهِيَ المرأَة الحَسْناءُ الْمُتَحَبِّبَةُ إِلى زَوْجِهَا، (لسان العرب ١/ ٥٩١).

والْعَوَاتِكُ: جَمْعُ عَاتِكَةٍ، وأَصل الْعَاتِكَةِ المُتَضَمِّخة بِالطِّيبِ، (لسان العرب ١٠/ ٤٦٤).