حديقة الحكمة النبوية في تفسير الأربعين السيلقية،

عبدالله بن حمزة (المنصور بالله) (المتوفى: 614 هـ)

الحديث الحادي والعشرون

صفحة 261 - الجزء 1

  وفي الحديث: «إنَّ اللهَ يُبَاهِي الْمَلَائِكَةَ بِالشَّاب التَّقِي» فإذا عمل الإنسان في حال الشبيبة جاء الهرم وقد استحقب من أعمال البر ما يكفيه في دار الآخرة، ولم يضره هرمه، وإذا فرَّط في أيام الشبيبة جاء وقت الهرم وهو فقير وقير⁣(⁣١)، ما له فتيل ولا نقير⁣(⁣٢)، فيندم على التفريط، فلا يغنيه ندمه، ويروم التثبت وقد زلت به قدمه، فيكون الشباب حجة، والهرم عقوبة، والمنقلب حسرة، والمرجع ندامة، قال الشاعر:

  يَوَدُّ الْفَتَى طُولَ السَّلَامَةِ والْبَقَا ... فَكَيْفَ تَرَى طُولَ السَّلَامَةِ يَفْعَلُ

  يَصِيرُ الْفَتَى مِنْ بَعْدِ عَزْمٍ وَقُوَّةٍ ... يَنُوءُ إذا رامَ الْقِيامَ ويُحْمَلُ

  وهذا من الله سبحانه تزهيد لعباده في هذه الدنيا أن يصير الصحيح فيها إلى السقم، والشاب إلى الهرم، وليرغبوا في دارٍ لا يسقم صحيحها، ولا يهرم شابُّها، يزيده تكور العصور جِدَّةً ونضارة، وحسناً وغضارة.

  وقيل لمعاوية لما بلغ الستين أو جاوزها: كيف أصبحت؟ قال:

  أَرَى اللَّيَالِي أَسْرَعَتْ فِي نَقْضِي ... طَوَيْنَ بَعْضِي وَنَشَرْنَ بَعْضِي

  أَقْعَدْنَنِي مِنْ بَعْدِ طُولِ نَهْضِي

  فلو لم يكن إلا هذا لكان أكبر زاجر؛ فكيف ومِن بعده هول المطَّلع، وروعات الفزع، والوقوف بين يدي الحكم العدل.

  قوله #: وَمِنْ فَرَاغِكَ لِشُغْلِكَ.

  أصل الفراغ التعطل والخلوّ، يقال: إناءٌ فارغٌ إذا كان خالياً، وقد قال تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا}⁣[القصص: ١٠] قيل في معناه: خالياً من كل شيء إلَّا من ذكره، والذي عندي فيه أنه خالٍ من الصَّبْرِ على كتمان أمره من شدة الوجد عليه، ولهذا قال تعالى: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ}⁣[القصص: ١٠] والله أعلم.


(١) فقير وَقيرٌ، إتباعٌ له. ويقال: معناه أنَّه أوْقَرَهُ الدَّينُ، أي أثْقَلَهُ، (الصحاح ٢/ ٨٤٩).

(٢) القِطْمير: الْقِشْرَةُ الرَّقِيقَةُ عَلَى النَّوَاةِ، والفَتِيل: مَا كَانَ فِي شَق النَّوَاةِ، وَبِهِ سُمِّيَتْ فَتِيلة، ... والنَّقير: النُّكْتة فِي ظَهْرِ النَّواة، ... وَهَذِهِ الأَشياء تُضْرَبُ كُلُّهَا أَمثالًا لِلشَّيْءِ التافِه الْحَقِيرِ الْقَلِيلِ، ا. ه، (اللسان: ١١/ ٥١٤) وقد مر تفسيرها خلال الحديث الخامس عشر.