حديقة الحكمة النبوية في تفسير الأربعين السيلقية،

عبدالله بن حمزة (المنصور بالله) (المتوفى: 614 هـ)

الحديث الحادي والعشرون

صفحة 262 - الجزء 1

  والشغل هو الامتلاء، يقال: إناء فارغ، وإناء مشغول، ثم نقل بعد ذلك إلى الناس، فمن خلا وجهه من الأشغال فهو فارغ، ومن تعلق بالتصرفات والأعمال فهو مشغول.

  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أنَّ دار الدنيا دار فراغ لمن شمر لأعمال الآخرة، ودار شغل لمن اشتغل بأعمالها البائرة، ودار الآخرة دار شغل لأهل الخير والشر، فأهل الجنة شغلهم اللذات، والتنقل في أنواع المسرات، وعليه يحمل قوله تعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ٥٥}⁣[يس] وأهل النار مشغولون بأنواع النكال، وضروب الوبال، في سموم؛ ريح حارة، وحميم؛ ماء حار، وظل من يحموم؛ دخان أسود، فأي فراغ فيه هؤلاء أو هؤلاء، وشتان بين الشغلين.

  وهذه الدار دار الفراغ لطلاب الآخرة، فليغتنمها العاملون، وليس للمسلم فيها شغل عن عمل الآخرة؛ لأنه إن اشتغل بطلب شيء يعود على أولاده، ويسد فاقته، فهو من أعمال الآخرة، وله فيه أجر، وإن اشتغل بدفع ضرر عن نفسه، ونوى به الله كُتِبَ له أجره، وإن ترك الدنيا، وتجرد لأعمال الآخرة فلا تدري نفس ما أخفي لهم من قرة أعين، فالبدار البدار، والحذار الحذار، قبل انقطاع الآجال، وهجوم الأشغال.

  قوله #: وَمِنْ حَيَاتِكَ لِوَفَاتِكَ.

  الحياة نقيض الموت، وقد تقدم معناها. والوفاة هي الموت، وهي مأخوذة من الوفاء الذي هو تسلم الحق بكماله. يقال أوفى فلان ما عليه إذا لم ينقص منه، فلما كان الموت يستوعب حُشَاشَةَ⁣(⁣١) النفس، فلا يُبْقِي منها شيئاً سُمِّي ذلك وفاةً.

  المَعْنَى فِي ذَلكَ: أن الحياة في هذه الدنيا هي مدة التكليف، ولا تكليفَ بعد الوفاة في الدنيا، فالواجب على العاقل أن يغتنم أيامها، ويُكْثِرَ من العمل الصالح فيها، ولا يُفَرِّطَ في طلب الخير ما دام يجد إليه سبيلاً، فهذا يوم الاكتساب، وغداً يوم الحساب، وغدٌ كائن لا محالة، واليوم بائن لا محالة، فرحم الله امرأً بادر نفاد الحياة، واستكثر من الأعمال الصالحات، وشمر ذيله للرحيل قبل أن يزعجه الدليل إلى شرٍّ طويل.


(١) الْحُشَاشَةُ بالشين معجمةً: بَقِيَّةُ النَّفْسِ، تمت ضياء، هامش (أ).